تحدياتُ مقاومةِ البكتيريا للمضادات الحيوية

تتحدى حاليا بعض العداوي (الأخماج) البكتيرية المضادات الحيوية كلها.

وقد تكون معضلة المقاومة عكوسا، بشرط أن يبدأ المجتمع بمراعاة كيف تتأثر

البكتيريا «الطيبة» بالأدوية، كما تتأثر البكتيريا «الشريرة» أيضا.

<B.S.ليڤي>

في العام 1997 وقعت حادثة طال ما خشي الأطباء مجابهتها. فلقد استجاب ثلاثة مرضى في مناطق متباعدة جغرافيا استجابة ضعيفة لترياق antidote كان معولا عليه دائما (هو الڤانكوميسين vancomycin) في مكافحة بكتيرة (مميتة في معظم الأحيان) هي المكورة العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus. ولكن لحسن الحظ ظل هذا المكروب في المرضى الثلاثة قابلا للتأثر بأدوية أخرى، وتم استئصال شأفته. بيد أن ظهور عنقودية ذهبية لا يقضي عليها الڤانكوميسين بسهولة كان نذيرا مقلقا.

في الحقيقة، لقد صار على نطاق عالمي، كثير من ذراري العنقودية الذهبية مقاوما للمضادات (الصادات) الحيوية كافة ما عدا الڤانكوميسين. إن انبثاق أشكال لا تتأثر بهذا المضاد الحيوي يعني أن ذراري جديدة تقاوم المعالجة بجميع المضادات الحيوية المعروفة في طريقها إلى الظهور. وهكذا، فإن العنقودية الذهبية ـ وهي سبب رئيسي في عداوٍ تصيب نزلاء المستشفيات ـ خطت خطوة باتجاه أن تصبح قاتلا يستحيل إيقافه.

وليس الخطر المحدق بعنقودية ذهبية غير قابلة للشفاء سوى الانعطاف الأخير لكابوس عالمي يصيب الصحة العامة، ويتمثل بتزايد مقاومة البكتيريا للكثير من المضادات الحيوية التي كانت يوما تشفي من الأمراض البكتيرية بسهولة. ومنذ الأربعينات، عندما صارت المضادات الحيوية متاحة على نطاق واسع، نودي بها كأدوية خارقة، أو رصاصات سحرية، تُخلِّص الجسم من البكتيريا من دون أن تلحق بخلاياه أذى مقلقا. ولكن مع كل عقد من الزمن انقضى على استعمالها فإن أنواع البكتيريا ـ التي لا تقاوم مضادا حيويا واحدا فحسب، بل مضادات حيوية متعددة، وغدت بالتالي عصية الضبط ـ صارت شائعة الانتشار.

أضف إلى ذلك أن ذراري أنواع بكتيرية ثلاثة على الأقل تسبب أمراضا تهدد الحياة وهي: المكورة المعوية البرازيةEnterococcus faecalis والمتفطرة السلّية Mycobacterium tuberculosis والزائفة الزنجاريةPseudomonas aeruginosa، تتملص فعليا من أي مضاد حيوي تشتمل عليه ترسانة السريريين (الإكلينيكيين) التي يتكدس فيها أكثر من مئة دواء. ولأسباب يرجع بعضها إلى زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، فإن معدل الوفيات في بعض الأمراض السارية (كالسُّل(1)) شرع من جديد بالارتفاع إثر تدنٍّ ملحوظ في الدول الصناعية.

المكورة العنقودية الذهبية
Staphylococcus aureus
تسبب تَسمُّم الدم وعداوي الجروح وذات الرئة. وفي بعض المستشفيات يكون أكثر من 60 في المئة من الذراري مقاوما للميثيسلين؛ بعض الذراري متهيئ لمقاومة جميع المضادات الحيوية (المستشفيات والمجتمع، في الخمسينات).

البكتيريا الراكدة
Acinetobacter
تسبب تسمم الدم لدى المرضى المنقوصي المناعة (المستشفيات، في التسعينات).

المكورة المعوية البرازية
Enterococcus faecalis
تسبب تسمم الدم وعداوي السبيل البولي والجروح لدى المرضى المنقوصي المناعة؛ إن بعض الذراري المقاومة لعدة أدوية غير قابل للعلاج (المستشفيات، في الثمانينات).

النَّيسيرية البنية
Neisseria gonorrhoeae
تسبب السيلان؛ وإن مقاومتها لعدة أدوية تقصر معالجتها على السفالوسپورينات بصورة أساسية (المجتمع، في السبعينات).

المُستدمية النزلية
Haemophilus influenzae
تسبب ذات الرئة وعداوي الأذن والتهاب السحايا، وعلى الأخص لدى الأطفال. يمكن حاليا اتقاؤها على نطاق واسع بوساطة اللقاحات (المجتمع، في السبعينات).

ولكن كيف انتهينا إلى هذه الحالة المقلقة ذات التردي المتفاقم؟ إن كثرة من السيرورات المتآثرة مسؤولة عن ذلك. ويشير تحليل هذه السيرورات إلى عدد من التدابير التي قد تعكس هذا النزوع، وذلك إذا ما توفرت لدى الأفراد والمؤسسات التجارية والحكومات في العالم كله الرغبة في تنفيذها.

ويتمثل أحد جوانب الحل بالاعتراف بأن البكتيريا هي جزء طبيعي وضروري للحياة. وتغزر البكتيريا ـ التي هي كينونات مكروية (مجهرية)، وحيدة الخلية ـ على سطوح غير حية وعلى أقسام من الجسم معرضة للوسط الخارجي، بما في ذلك الجلد والأغشية المخاطية وبطانة السبيل المعوي، ويعيش معظمها حياة مسالمة. وفي الحقيقة، إنها غالبا ما تقينا من الأمراض؛ ذلك أنها تنافس البكتيريا المُمْرِضَة وتحدّ بالتالي من تكاثرها، والأخيرة هي قلة من الأنواع يمكنها أن تتضاعف بضراوة إلى ملايين، فتؤذي النسج أو تسبب الاعتلال. ويمكن للبكتيريا المنافسة الحميدة أن تغدو حليفا مهما في الصراع ضد المُمْرِضات المقاومة للمضادات الحيوية.

وعلى الناس أن يدركوا أيضا أنه على الرغم من أن المضادات الحيوية ضرورية للسيطرة على العداوي البكتيرية، فإن لها تأثيرات واسعة وغير مرغوب فيها في إيكولوجية المكروبات. ويعني هذا أنها تُحدِث تغيرات دائمة الأثر في أنواع البكتيريا ونسبها، وفي مزيج الأنماط المقاومة للمضادات الحيوية والأنماط الحساسة لها، لا في الأفراد الذين تتم معالجتهم فحسب، بل في البيئة والمجتمع عموما. ولذا، فإنه يتوجب استعمال هذه المركبات فقط عندما تدعو الحاجة فعلا إلى ذلك، كما يجب ألا تُعطى في معالجة العداوي الڤيروسية؛ إذ تكون عديمة التأثير فيها.

توليفة رديئة

وعلى الرغم من أن عوامل عديدة يمكن أن تؤثر فيما إذا كانت البكتيريا ستصبح في فرد أو في مجتمع غير حساسة لمضاد حيوي ما، فإن القوتين الرئيسيتين تتمثلان في انتشار جينات المقاومة (التي تكوِّن بروتينات تقي البكتيريا من تأثيرات المضاد الحيوي) وفي مدى استعمال المضاد الحيوي. فإذا كانت الفلورة flora البكتيرية الكلية في مجتمع بشري تفتقر إلى جينات تمنح المقاومة لمضاد حيوي ما، فإن هذا المضاد سيقضي على العداوي التي يسببها أي نوع من الأنواع البكتيرية في المجموعة المشار إليها. أما إذا كانت الفلورة تمتلك جينات المقاومة ويثابر المجتمع البشري على استعمال المضاد الحيوي، فستنشأ وتتكاثر بكتيريا قادرة على مقاومة الإبادة التي يمارسها المضاد الحيوي.

يوضح عرض لصور البكتيريا (على غرار عرض الشرطة صور المجرمين المعروفين)، أن بعضها يتخذ أشكالا مقاومة لعدة مضادات حيوية، ومعالجة هذه الأشكال صعبة ومكلفة. إن بعض ذراري الأنواع الموصوفة بالأحمر لم تعد تستجيب لأي مضاد حيوي، وتسبب عداوي غير قابلة للشفاء. وتسبب بعض البكتيريا عداوي تحدث على نحو أساسي في المستشفيات أو في المجتمع، في حين يُحدث بعضها الآخر عداوي في البيئتين معا. ويشير عقد الزمن الموضح تحت صورة كل نوع بكتيري إلى الفترة التي بدأت فيها المقاومة تشكل معضلة. لقد تم تكبير البكتيريا، التي هي أصلا مكروية (مجهرية)، تكبيرا شديدا في هذه الصور ذات الألوان الصنعية.

المتفطرة السلية
Mycobacterium tuberculosis
تسبب السُّل. إن بعض الذراري المقاومة لعدة أدوية غير قابل للعلاج (المستشفيات والمجتمع، في السبعينات).

الإشريكية القولونية
Escherichia coli
تسبب عداوي السبيل البولي وتسمم الدم والإسهال وقصورا كلويا. إن بعض الذراري التي تسبب عداوي السبيل البولي يقاوم عدة أدوية (المستشفيات والمجتمع، في الستينات).

الزائفة الزنجارية
Pseudomonas aeruginosa
تسبب تسمم الدم وذات الرئة، وعلى الأخص لدى مرضى التليف الكيسي cystic fibrosis أو المنقوصي المناعة. إن بعض الذراري المقاومة لعدة أدوية غير قابل للعلاج (المستشفيات والمجتمع، الستينات).

الشيگلّّة الزحارية
Shigella dysenteria
تسبب الزحار (الإسهال المدمى). سببت الذراري المقاوِمة حدوث أوبئة، ويمكن معالجة بعضها فقط بمركبات الفلوروكينولون الباهظة الثمن وهي غالبا غير متاحة في البلدان النامية (المجتمع، في الستينات).

المكورة العقدية الرئوية
Streptococcus pneumoniae
تسبب تسمم الدم وعداوي الأذن الوسطى وذات الرئة والتهاب السحايا (المجتمع، في السبعينات).

وليست المُمْرِضات المقاومة للمضادات الحيوية أكثر فوعة (ضراوة) من غير المقاومة: إن عدد الخلايا البكتيرية المقاومة وغير المقاومة الضروري لإحداث المرض واحد في الحالتين؛ بيد أن الأشكال المقاومة تستعصي على التخريب بدرجة أكبر. ويمكن التخلص من الأشكال ذات الحساسية المنخفضة تجاه مضاد حيوي معين باستعمال كميات أكبر من الدواء، أما الأنماط ذات المقاومة العالية، فيتطلب الشفاء منها معالجات مختلفة.

ولكي نفهم كيف تُمكِّن جينات المقاومة البكتيريا من أن تقاوم هجمة أحد المضادات الحيوية، فمن المفيد أن نعلم جيدا ما هي المضادات الحيوية وكيف تُلحق الأذى بالبكتيريا. وإذا ما توخينا الدقة فإنه يمكن تعريف المضادات الحيوية بأنها مواد طبيعية (تصنعها كائنات حية)، تثبط نمو البكتيريا أو تكاثرها أو أنها تقتلها مباشرة. أما من الناحية العملية، فإن معظم المضادات الحيوية التجارية قد غُيرت في المختبر لتحسين فاعليتها أو لزيادة أنواع البكتيريا التي تؤثر فيها. وفي هذا المجال، سوف أوسع تعريف المضادات الحيوية كي يشمل أيضا أدوية تركيبية كليا completelysynthetic ـ كالكينولونات quinolones والسلفوناميدات sulfonamides ـ تقع تقنيا تحت العنوان الأوسع: مضادات المكروبات antimicrobials.

وبغض النظر عن هوية المضادات الحيوية، فإنها بتثبيطها النمو البكتيري تمنح الدفاعات المناعية للعائل (الثوي) فرصة الالتفاف على ما يتبقى من الغزاة. ونمطيا، يعوق الدواء التكاثر البكتيري من خلال دخوله المكروب وتدخله في إنتاج المكونات الضرورية لتشكيل خلايا بكتيرية جديدة. فمثلا، يرتبط المضاد الحيوي المسمى التتراسكلين بالريبوزومات (الجسيمات الريبية) (2) مبطلا بذلك تصنيع البروتينات؛ كما أن البنسلين والڤانكوميسين يعوقان التكوين السوي للجدار البكتيري.

ترجع مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية إلى جينات المقاوَمة. فمثلا، قد تكوّد هذه الجينات بروتينات الضخ الخارجي التي تقذف المضادات الحيوية من داخل الخلية إلى خارجها (a)، أو تنشئ الجينات إنزيمات تقوّض المضاد الحيوي (b) أو تغير الدواء كيميائيا وتعطله (c). ويمكن لجينات المقاومة أن تُحمل على الصبغي (الكروموزوم) البكتيري، أو ـ وهو الأكثر شيوعا ـ على الپلازميدات(3). بعض هذه الجينات موروث، وبعضها الآخر ينبثق نتيجة طفرات عشوائية تصيب الدنا البكتيري، ونوع ثالث يؤتى به من بكتيريا أخرى.

تلتقط البكتيريا جينات المقاومة من خلايا بكتيرية أخرى بطرائق ثلاث. فغالبا ما تتلقى پلازميدات كاملة تحمل جينة مقاومة واحدة أو أكثر من خلية مانحة (a). ويحدث أحيانا أن يلتقط ڤيروس جينةً مقاومةً من بكتيرة ما ويحقنه في خلية بكتيرية مختلفة (b). ويمكن للبكتيريا أحيانا أن تلتهم قطعا من الدنا DNA تحمل هذه الجينات، من خلايا ميتة توجد في الجوار (c). وتستمر الجينات التي تم الحصول عليها من الڤيروسات أو من الخلايا الميتة في موطنها الجديد فقط عندما تنجبل نهائيا في صبغي المتلقي أو في پلازميد.

ولكن بعض جينات المقاوَمة تحول دون التخرب البكتيري بتكوينها إنزيمات تقوِّض (تدرِّك) المضادات الحيوية أو تحورها كيميائيا، معطلة بهذا فاعليتها؛ ومن جهة أخرى تقوم بعض جينات المقاومة بدفع البكتيريا كي تغير الجزيئات التي تترابط عادة بالمضاد الحيوي أو تضع جزيئات أخرى محلها، فيُستبعد عندئذ الجزيء البكتيري الذي يستهدفه الدواء. كما يمكن للبكتيريا أن تلغي مداخل الدواء، أو أن تقوم بفاعلية أقوى فتصنع مضخات ترحّل المضاد الحيوي إلى خارج الخلية البكتيرية قبل أن تتاح له فرصة الارتباط بهدفه داخلها.

ليست المضادات الحيوية هي المواد الوحيدة المضادة للمكروبات (الأحياء المكروية) التي تستعمل بإفراط. فالعوامل المضادة للبكتيريا(3) هي قيد الاستعمال الواسع أيضا. إن هذه المركبات ـ التي تعرف أيضا بالمُطهِّرات disinfectants,antiseptics ـ تُطَهَّر بها الأجسام غير الحَيّة، كما يطهَّر بها الجلد.

لقد استعملت تاريخيا معظم مضادات البكتيريا في المستشفيات، حيث كانت تجبل مع الصابون والألبسة الجراحية للحد من انتشار العدوى (الخمج). أما في الماضي القريب، فإن هذه المواد (بما في ذلك التريكلوكربون والتريكلوزان ومركبات الأمونيوم الرباعية مثل كلوريد البنزالكونيوم)مزجت بالصابون والدهونات والمنظفات المنزلية المصنعة للاستهلاك العام. كما تم تشريب هذه المواد في أشياء مختلفة، كالدمى وكراسي الأطفال والفُرُش وألواح التقطيع (المستخدمة في المطابخ).

ولا يتوفر أي دليل على أن إضافة المضادات البكتيرية إلى هذه الأشياء المنزلية تحول دون العدوى. ولكن ما هو واضح بالتأكيد أن انتشار هذه المنتجات التي تحوي المضادات البكتيرية يستثير قلقا صحيا عاما.

وبوسع المضادات البكتيرية ـ شأنها في ذلك شأن المضادات الحيوية ـ أن تغير المزيج البكتيري؛ إذ إنها تقتل البكتيريا الحساسة وتحض في الوقت نفسه على نمو الذراري المقاومة. وقد تشتمل هذه المكروبات المقاوِمة على البكتيريا التي كانت تستوطن المادة أصلا؛ كما يمكن أن تشتمل على الذراري التي لم تكن قادرة سابقا على أن ترسخ نفسها، بيد أنها تستطيع أن تسود الآن بسبب زوال المكروبات المنافسة. ويساورني القلق تحديدا بشأن المجموعة الثانية ـ الفضولية الدخيلة، ذلك أنه ما إن تسنح لها فرصة التكاثر، حتى يمكن أن يتحول بعضها إلى عوامل مرضية جديدة.

إن استعمال مضادات البكتيريا في المنزل على نحو مفرط يستثير القلق لأسباب أخرى أيضا. فالجينات البكتيرية المسؤولة عن مقاومة مضادات البكتيريا تكون أحيانا محمولة على الپلازميدات(4)، التي تحمل أيضا جينات مقاومة المضادات الحيوية. فإذا ما تم تشجيع نمو البكتيريا التي تحتوي على تلك الپلازميدات، فإن المضادات البكتيرية قد تعزز نوعين من المقاومة وهما: المقاومة ضدها، والمقاومة ضد المضادات الحيوية.

ومن المؤكد أن تنظيف المنازل باستمرار أمر ضروري. بيد أن الصابون العادي والمنظفات الأخرى (الخالية من المضادات البكتيرية المضافة) تُنقص على نحو كافٍ من أعداد البكتيريا المزعجة المحتملة. وبالمثل، فإنه يمكن استعمال المواد الكيميائية السريعة التبخر ـ كمشتقات الكلور القاصرة (المُبَيِّضة) القديمة الاستعمال والكحول والأمونيا (النشادر)وپيروكسيد الهدروجين ـ على نحو مفيد؛ إذ إنها تزيل البكتيريا التي قد تكون ممرضة عن أدوات قياس الحرارة والأواني المعدة لتحضير اللحوم النيئة للطهو، بيد أنها لا تُبقي ثمالاتresidues مديدة التأثير تستمر في قتل البكتيريا الحميدة، فلا تزيد بالتالي من نمو الذراري المقاومة بعد فترة طويلة من إزالة الممرض منها كليا.

فإذا أردنا المغالاة وإنشاء بيئة عقيمة، فسنجد أنفسنا نتعايش مع بكتيريا شديدة المقاومة للمضادات البكتيرية، وربما للمضادات الحيوية. فإذا ما رغبنا فعلا في تطهير منازلنا وأيدينا ـ كما يحدث لدى عودة أحد أفراد العائلة من المستشفى إلى المنزل وهو لايزال عرضة للعدوى ـ فسنواجه بصورة رئيسية بكتيريا مقاومة. ولن يكون من المستبعد، مع فرط استعمالنا للمضادات البكتيرية والمضادات الحيوية، أن نجعل من منازلنا ـ كمستشفياتنا ـ بيئة مواتية لنمو بكتيريا مسببة للمرض ولا يمكن القضاء عليها.

مقاومتي هي مقاومتك

وبوسع البكتيريا أن تكتسب جينات مقاومة بسبل مختلفة ولكنها قليلة العدد. فبعض البكتيريا يرث هذه الجينات من أسلافه. وفي حالات أخرى، إن الطفرات الجينية التي تحدث بسهولة في البكتيريا تنتج تلقائيا صفة (خَلّة) traitجديدة للمقاومة أو تقوي صفة موجودة من قبل. وكثيرا ما تكتسب البكتيريا دفاعا ضد مضاد حيويٍّ ما بحصولها على جينات مقاومة من خلايا بكتيرية أخرى توجد في الجوار. وبالفعل، فإن التبادل الجيني على درجة من الانتشار الواسع بحيث يمكن اعتبار عالَم البكتيريا بكامله كائنا حيا ضخما عديد الخلايا تتبادل فيه الخلايا جيناتها بسهولة.

لقد طورت البكتيريا طرائق كثيرة تتشارك بوساطتها صفات المقاومة [انظر «مقايضة جينية بكتيرية في الطبيعة»،مجلة العلوم، العددان 8/9(1998)، ص 22]. وتكون جينات المقاومة محمولة عادة على الپلازميدات(5)plasmids. بيد أن الجينات قد توجد أيضا على الصبغي البكتيري، وهو جزيء الدنا الأضخم، الذي يختزن الجينات الضرورية لتكاثر الخلايا البكتيرية والحفاظ عليها.

غالبا ما تنقل بكتيرة واحدة صفات المقاومة إلى بكتيريا أخرى بمنحها پلازميدًا مفيدا. كما بوسع جينات المقاومة أن تُنقل بوساطة الڤيروسات، التي تستخلص أحيانا جينة من خلية بكتيرية معينة وتحقنها (تزرقها) في خلية بكتيرية أخرى مختلفة. وعلاوة على ذلك، تتحرر جينات البكتيرة في الوسط إثر موتها، فتستولي أحيانا بكتيرة أخرى على بعض هذه الجينات.

وفي الحالتين الأخيرتين الآنفتي الذكر تبقى الجينة على قيد الحياة، وتمنح صفة مقاومة المضاد الحيوي فقط إذا ما تكاملت بثبات مع پلازميد أو صبغي. ويحدث هذا التكامل كثيرا؛ لأن جينات المقاومة غالبا ما تكون مسجاة (منطمرة) في وحدات صغيرة من الدنا تعرف بالترانسپوزونات transposons، تثب بسهولة إلى جزيئات دنا أخرى. وفي انعطاف مصيري يدعو إلى الأسف فيما يتعلق بالإنسان، يؤدي كثير من البكتيريا دور العائل (الثوي) لترانسپوزونات متخصصة (سميت الإنتگرونات integrons) تماثل دور الورقة صائدة الذباب flypaper في نزوعها إلى أسْر جينات جديدة. ويمكن أن تتألف هذه الإنتگرونات من عدد من جينات المقاومة المختلفة، تنتقل إلى بكتيريا أخرى كفرق كاملة من عصابات تتحدى المضادات الحيوية.

لقد امتلكت بكتيريا كثيرة جينات المقاومة حتى قبل دخول المضادات الحيوية التجارية نطاق الاستعمال. ولا تتوافر لدى العلماء أفكار واضحة تماما عن أسباب تطور هذه الجينات وسبل الحفاظ عليها. ومن المنطقي التفكير بأن المضادات الحيوية الطبيعية قد طُورت في البداية نتيجة لحدوث طفرات جينية عشوائية. ثم أتاحت المركبات التي قضت على الأشكال المنافسة فرص البُقْيا(6) والتكاثر لصانعاتها، هذا إذا أسعفها الحظ وامتلكت جينات تقيها شر أسلحتها الكيميائية الخاصة بها. ولقد استطاعت هذه الجينات بعدئذ أن تصل إلى أنواع أخرى، كان بعضها ُمْمرِضًا.

وبغض النظر عن الطريقة التي تكتسب بها البكتيريا اليوم جينات المقاومة، فإن بوسع المضادات الحيوية التجارية منها أن تنتقي ذراري بكتيرية مقاومة وتحض على بُقْياها وانتشارها. وبمعنى آخر، فإن المضاد الحيوي ـ عن طريق تشجيعه نمو المُمْرِضات المقاومة ـ يسهم فعلا في إبطال التأثير الخاص به.

يمكن لانتشار البكتيريا المقاومة، التي تنشأ بسهولة، أن يمتد بعيدا جدا. لقد اقتفى الباحثون أثر ذرية من العقديات الرئوية مقاوِمة لعدة أدوية انتقلت من أسبانيا إلى البرتغال، ومن ثم إلى فرنسا وبولندا والمملكة المتحدة وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة والمكسيك.

كيف تحض المضادات الحيوية على المقاومة

إن سيرورة الانتقاء مباشرةٌ وواضحة إلى حد ما. فعندما يهاجم أحد المضادات الحيوية زمرة بكتيرية، تموت الخلايا ذات الحساسية الشديدة للدواء. بيد أن الخلايا التي تمتلك أصلا بعض المقاومة أو التي تكتسبها فيما بعد (عن طريق الطفور أو التبادل الجيني)، قد تبقى ـ وعلى الخصوص إذا كانت كمية الدواء قليلة جدا إلى درجة لا تكفي لدحر الخلايا الموجودة؛ فتتكاثر عندئذ ذرية البكتيريا التي تخلصت من منافسة أقرانها ذات الحساسية الشديدة. وعندما يجابه المضاد الحيوي الخلايا، فإن أشدها مقاومة ضمن زمرة ما سيتغلب تنافسيا وبصورة حتمية على الذراري الأخرى كلها.

وليس الحض على المقاومة لدى المُمْرِضات المعروفة هو الفاعلية الوحيدة القاهرة للذات التي تبديها المضادات الحيوية. فعندما يهاجم الدواء البكتيريا المسببة للمرض، فإنه يؤثر أيضا في البكتيريا الحميدة (المتفرجة البريئة) التي يصادفها. فالمضاد الحيوي يقضي عندئذ على المتفرجات ذات الاستعداد للتأثر به، والتي كان بإمكانها الحد من توسع البكتيريا الممرضة، ويشجع في الوقت نفسه نمو المتفرجات المقاومة. إن توسع نمو هذه البكتيريا المقاومة اللامُمْرضة يزيد من رصيد صفات المقاومة في المجموعة البكتيرية ككل، ويزيد من احتمال انتقال هذه الصفات إلى الذراري المُمْرضة. وعلاوة على ذلك، فإن المجموعات المتفرجة المتنامية تتحول في حد ذاتها أحيانا إلى عوامل ممرضة.

تختفي مجموعة بكتيرية مقاوِمة اختفاء طبيعيا فقط عندما تعيش بالجوار بكتيريا ذات استعداد للتأثر. فبعد إيقاف المعالجة بالمضاد الحيوي (a)، يمكن للبكتيريا المقاومة أن تستمر مدة وجيزة. ولكن إذا ما تيسر في الجوار وجود بكتيريا ذات استعداد للتأثر، فإن هذه تعود لغزو الشخص (b). وفي حال غياب الدواء، ستتاح للبكتيريا ذات الاستعداد فرصة أفضل للبُقْيا ولو كانت ضئيلة، لأنها لن تضطر إلى صرف الطاقة اللازمة للحفاظ على جينات المقاومة. ومع مرور الوقت، فإنها قد تبيد تنافسيا المكروبات المقاومة c) و (d. ولهذا السبب بالذات، فإنه يتوجب أن تُمنح حماية البكتيريا ذات الاستعداد أولوية استثنائية في الصحة العامة.

فعلى سبيل المثال، لقد حض الاستعمال الواسع للمضادات الحيوية المعروفة باسم سفالوسپورينات على تكاثر البكتيريا المعوية المعروفة بالمكورة المعوية البرازية Entercoccus faecalis التي كانت يوما ما حميدة ولديها مقاومة طبيعية لهذه المضادات الحيوية. وبوسع الجهاز المناعي في معظم الناس أن يحد من نمو هذه المكورة، حتى تلك الذراري التي تقاوم العديد من الأدوية، فلا تؤدي بالتالي إلى اعتلال. إلا أن ما يحدث لدى بعض نزلاء المستشفيات ذوي المناعة المنقوصة هو إمكان انتشار المكورة المعوية البرازية ووصولها إلى صمامات القلب وإلى الأعضاء الأخرى، مؤدية إلى إصابة مجموعية (جهازية) مميتة.

وعلاوة على ذلك، فإن إعطاء الڤانكوميسين طوال سنوات قد حوَّل المكورة المعوية إلى مستودع خطر يضم صفاتٍ مقاوِمة للڤانكوميسين. ولا بد من التذكير بأن بعض الذراري المُمْرضة للمكورة العنقودية الذهبيةStaphylococcus aureus مقاوم لعدد من الأدوية ولا يستجيب إلا للڤانكوميسين. ولأن المكورة المعوية البرازية المقاومة للڤانكوميسين أضحت شائعة، فإن خبراء الصحة العامة يخشون وصول هذه المقاومة العالية للڤانكوميسين إلى ذراري المكوّرات العنقودية الذهبية، مما يجعل الإصابة بها غير قابلة للشفاء.

لقد أتاح «تأثير المتفرج»أيضا فرصة انبثاق ذرارٍ مقاومة لعدد من الأدوية من البكتيريا الراكدةAcinetobacter والأصفرية Xanthomonas لتصبح عوامل عداوي منقولة بالدم ربما أدت إلى موت المرضى الراقدين في المستشفيات. إن هذه المكروبات ـ التي كانت حميدة في السابق ـ لم يكن يُسمع عنها عمليا أي شيء قبل خمس سنوات فقط.

وكما شرحت آنفا، فإن المضادات الحيوية تؤثر في المجموعات المختلطة من البكتيريا المقاومة وغير المقاومة، في الأفراد قيد المعالجة وفي البيئة على السواء. فعندما تنبثق بكتيريا مقاومة في أفراد قيد المعالجة، فإن هذه البكتيريا ـ شأنها شأن غيرها ـ تنتشر بسرعة في الوسط المحيط وتنتقل إلى عوائل جديدة. وأوضح الباحثون أنه عندما يتناول أحد أفراد عائلة ما، على نحو مزمن، مضادا حيويا لمعالجة العُدّ(7) acne، فإن تركيز البكتيريا المقاومة على جلد أفراد العائلة يزداد. وبالمثل، فإن الاستعمال المفرط للمضادات الحيوية في أمكنة عامة ـ كالمستشفيات ومراكز الرعاية النهارية والمزارع (حيث غالبا ما تعطى الأدوية للماشية لأغراض غير علاجية) ـ يزيد من مستويات البكتيريا المقاومة في الأفراد والكائنات الحية الأخرى غير المعالجة ـ ويشمل ذلك الأفراد الذين يعيشون بجوار تلك الأمكنة ذات الاستهلاك المرتفع، وكذلك الأفراد الذين يعبرون هذه الأمكنة والمراكز.

ولما كانت المضادات الحيوية ومضادات المكروبات(8) الأخرى (كمبيدات الفطور) تؤثر في أنواع البكتيريا الموجودة في البيئة وفي الأفراد المحيطين بالشخص قيد المعالجة، فإنني غالبا ما أسمي هذه المواد الأدوية المجتمعيةsocietal ـ لأنها الطائفة الدوائية الوحيدة التي تستحق هذه التسمية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأدوية المضادة للسرطان تؤثر فقط في الشخص الذي يأخذ هذه الأدوية.

وعموما، فإن مقاومة المضادات الحيوية التي تنشأ في مكان ما يمكن غالبا أن تنتشر على مساحات أوسع. إن التزايد المتعاظم باستمرار في حجم السَّفَر العالمي عجَّل في نقل بكتيرة السُّل المقاومة للعديد من الأدوية من بلدان مختلفة إلى الولايات المتحدة. ولقد وثّق الباحثون انتقال ذرية من المكوّرة العقدية الرئوية Streptococcuspneumoniae مقاومة لعدد من الأدوية من أسبانيا إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا وأمكنة أخرى. إن هذه البكتيريا، التي تعرف أيضا بالمكورة الرئوية Pneumococcus، تسبب ذات الرئة (التهاب الرئة)pneumonia والتهاب السحايا meningitis وأمراضا أخرى.

يؤدي استعمال المضادات الحيوية إلى انتقاء ـ أو تعزيز تطور ونمو ـ البكتيريا غير الحساسة للأدوية. فعندما تتعرض البكتيريا للمضاد الحيوي (a)، فإن الخلايا البكتيرية الحساسة للتأثر بالدواء تموت (b)؛ في حين إن تلك التي تحمل شيئا من اللاحساسية تبقى وتنمو (c)إذا ما كانت كمية الدواء أقل من أن تقضي على الخلايا كلها. ومع استمرار المعالجة، فإن بعض ما تبقى حيا يكتسب في معظم الأحيان مقاومة أقوى (d)، إما بطفور جيني يولد صفة جديدة للمقاومة، أو بوساطة تبادل جيني مع بكتيريا وصلت حديثا إلى الجوار. وستتملص حينئذٍ هذه الخلايا المقاوِمة من الدواء بنجاعة تفوق غيرها (e)، وستسود فيما بعد f) و (g.

تعذر السيطرة على استعمال المضادات الحيوية ليس من المفاجئ لمن يدرك أن إعطاء المضادات الحيوية يعزز المقاومة، أن يعرف أن العالم يواجه أزمة صحة جدية عامة. إن استعمال (وسوء استعمال) المضادات الحيوية قد تعاظم منذ أن بدأ استعمال الأشكال التجارية، بما في ذلك ما يستعمل منها لأغراض غير طبية. لقد تم في عام 1954 إنتاج ما يقل قليلا عن مليون كيلوغرام في الولايات المتحدة وحدها؛ أما اليوم فالرقم قارب 23 مليونا.

وفي الولايات المتحدة، تستعمل سنويا نحو نصف الكمية المستهلكة لأغراض المعالجة البشرية. وقد يكون نصف هذا الاستعمال مناسبا وقُصد به شفاء العداوي البكتيرية، وأعطي على نحو صحيح ـ أي بطريقة لا تشجع كثيرا نشوء المقاومة.

وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الأطباء يذعنون لطلب المرضى المضلَّلين بأن يصفوا لهم مضادا حيويا لمعالجة الزكام والعداوي الڤيروسية الأخرى التي لا يمكن شفاؤها بهذه الأدوية. ولقد قدر الباحثون في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها أن قرابة50مليونا من أصل150مليون وصفة طبية للمضادات الحيوية أعطيت سنويا لمرضى العيادات الخارجية out patients كانت غير ضرورية. وتبين لنا (في ندوة عقدناها) أن أكثر من ثمانين في المئة من الأطباء المشاركين اعترفوا بأنهم كتبوا وصفات طبية لمضادات حيوية إذعانا لطلب المرضى وخلافا لتقديرهم الشخصي.

ومع أن المضادات الحيوية في البلدان الصناعية لا تتاح إلا بوصفة طبية، فإن هذا التقييد لا يضمن حسن الاستعمال. فغالبا لا يواصل الناس الاستمرار في العلاج إلى نهايته المقررة. وعندئذ يختزن المريض الجرع التي لم يستعملها ويعالج بها نفسه ـ أو أفراد عائلته، وحتى أصدقاءه ـ بمقادير أقل من الكميات العلاجية المقررة. وفي مثل هذه الحالات، فإن الجرعات غير الملائمة لن تخفق في التخلص كليا من العامل الممرض فحسب، بل ستشجع نمو أشد الذراري مقاومة، التي قد تسبب فيما بعد اضطرابات تصعب معالجتها.

أما في البلدان النامية فإن استعمال المضادات الحيوية أقل ضبطا. إن كثيرًا من الأدوية التي لا تعطى في البلدان الصناعية إلا بوصفة طبية متاح في البلدان النامية بطلب شفهي. ومما يؤسف له أنه عندما تتحول المقاومة إلى مشكلة سريرية، فإن هذه البلدان ـ التي غالبا ما يصعب عليها الحصول على الأدوية الباهظة ـ قد لا تجد البديل متاحا.

إن نفس الأدوية التي توصف لمعالجات بشرية تستعمل على نطاق واسع في تربية الحيوانات الداجنة وفي الزراعة. إن أكثر من40في المئة من المضادات الحيوية التي تنتج في الولايات المتحدة تُعطى للحيوانات. ويستعمل قسم من هذه الكمية في معالجة العداوي أو الوقاية منها، بيد أن حصة الأسد منها تمزج بالغذاء للحض على النمو. وتعطى في هذا التطبيق الأخير كميات ضئيلة جدا لا تكفي للقضاء على العدوى، ويستمر ذلك على امتداد أسابيع أو أشهر. ولا يعرف أحد على وجه التأكيد كيف يدعم الدواء النمو. ومع ذلك، فمن الواضح أن هذا التعرض الطويل الأمد لجرعات خفيضة يمثل الصيغة الفضلى لانتقاء عدد متزايد من البكتيريا المقاومة في الحيوانات المعالَجَة، التي قد تنقل المكروبات إلى المشرفين على هذه الحيوانات، وبدرجة أكبر إلى الأشخاص الذين يحضِّرون اللحوم، وكذلك الذين يتناولون اللحوم غير المطهوة جيدا.

وتستعمل المضادات الحيوية في الزراعة على شكل رذاذ (ضَبُوبات) aerosols في حقول الأشجار المثمرة بغية مكافحة العداوي البكتيرية أو الوقاية منها. ومع أن التراكيز العالية قد تبيد كل البكتيريا الموجودة على الأشجار لحظة الرش، فإن ثمالات المضادات الحيوية المتبقية تشجع نمو البكتيريا المقاومة التي تستعمر الثمار المقطوفة أثناء التحضير والشحن. كما أن تأثير الرذاذ لا يقتصر فقط على الأشجار المستهدفة؛ لأنه يُحمل مسافات بعيدة نسبيا فيصيب أشجارا ونباتات غذائية أخرى، حيث يكون تركيزه على درجة من الانخفاض لا تسمح له بالقضاء على العداوي التي بلغت أوجها، ولكنه يظل قادرا على إبادة البكتيريا الحساسة؛ الأمر الذي يمهد لسيادة الذراري المقاومة. وبوسع هذه البكتيريا المقاومة أن تصل إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية، لتسكن في سبيله المعوي بعد تناوله المنتج الثمري (الغذائي).

ولا ينبغي الاستهانة بكمية البكتيريا المقاومة التي يكتسبها الناس من الأطعمة. فلقد بين<E.D.كورپه>[من المعهد الوطني للبحوث الزراعية في تولوز بفرنسا] أنه عندما تناول أفراد متطوعون غذاء (قوتًا) تألف فقط من أطعمة خالية من البكتيريا، فإن عدد البكتيريا المقاومة في برازهم تناقص ألف مرة. وتشير هذه النتيجة إلى أننا نزود سبيلنا المعوي بكثير من الذراري البكتيرية المقاومة في كل مرة نتناول طعاما نيئا أو غير مطهو على نحو كاف. وليست هذه البكتيريا مؤذية عادة، بيد أن الأمر يصبح نقيض ذلك إذا ما حدث وتلوث الطعام ببكتيريا ممرضة.

تتمثل إحدى الاستراتيجيات الصيدلانية للتغلب على المقاومة في الإفادة من الاكتشاف بأن بعض البكتيريا يتغلب على مضادات حيوية معينة (كالتتراسِكلين)بضخها الدواء خارج الخلية (a). وللتغلب على هذه الحيلة، فإن الباحثين استنبطوا مركبات تلجم هذه المضخات (b)، الأمر الذي يُبقي على المضاد الحيوي داخل الخلية ليفعل فعله بكفاءة. وهكذا، يمكن الإبقاء على فاعلية التتراسكلين بعرقلة عمل الريبوزومات (الجسيمات الريبية) ribosomes التي تصنع البروتين البكتيري.

إن الاستعمال العالمي الواسع الانتشار للمضادات الحيوية في الطب وفي تربية الحيوانات وفي الزراعة يُبقي انتقائيا وباستمرار على الذراري البكتيرية المقاومة للأدوية. فهل يتوجب إيقاف استعمال المضادات الحيوية كلها كي نوقف تزايد الذراري المعندة(9)؟ لا بالتأكيد. ولكن إذا كان لا بد من الحفاظ على فاعلية الدواء وقضائه على الممرضات، فيتحتم آنئذ استعماله بمسؤولية أكبر. وقد يقبل المجتمع بعض الزيادة في جزء من البكتيريا المقاومة عندما تتوجب معالجة  مرض ما؛ ولكن هذه الزيادة غير مقبولة عندما يغدو استعمال المضاد الحيوي غير ضروري.

كيف نعكس المقاومة

يمكن في الحال اتخاذ عدد من التدابير التصحيحية. وكبداية، لا بد من مساعدة المزارعين على إيجاد بدائل غير مكلفة لتشجيع نمو الحيوان ولحماية الأشجار المثمرة. وقد يفيد اتباع مبادئ العلوم الصحية مثلا في زيادة نماء حيوانات المزرعة.

ويمكن للإنسان أن يغسل الفواكه الغضة والخضراوات غسلا جيدا للتخلص من البكتيريا المقاومة وما تبقى من ثمالات المضادات الحيوية. وعندما تشتمل الوصفة الطبية على مضاد حيوي، فإن على المرء أن يستعمل المعالجة كاملة كي يضمن إبادة البكتيريا الممرضة كلها، وعليه ألا «يدخر» ولو قرصًا pill واحدا لاستعمال تال. وعلى الأفراد أيضا أن يحجموا عن طلب المضادات الحيوية لمعالجة الزكام والعداوي الڤيروسية الأخرى، وأن يفكروا بمعالجات لا تشتمل على مضادات حيوية لإصابات هامشية كبعض حالات العُدّ (حب الشباب) مثلا. ومع أنه بإمكانهم أن يستمروا بوضع مراهم المضادات الحيوية على الجروح الصغيرة، فإن عليهم أن يفكروا مرتين قبل الاستعمال الروتيني لدهونات lotions اليدين والمنتجات الأخرى الكثيرة التي تم تشريبها بعوامل مضادة للبكتيريا. وتشير المكتشفات المختبرية الجديدة إلى أن بعض المواد الكيميائية المبيدة للبكتيريا والتي تدمج حاليا في منتجات استهلاكية يمكنها أن تدعم انتقائيا البكتيريا المقاومة لكل من المضادات الحيوية والمستحضرات المضادة للبكتيريا [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 18].

أما فيما يتعلق بالأطباء، فبإمكانهم الشروع فورا بتدابير تقلل من حدوث أي مقاومة قد تنجم عن الاستعمال الضروري لوصفات المضادات الحيوية. وعليهم أن يحاولوا حيثما أمكن، تعرف هوية المُمْرِض المسبب قبل البدء بالمعالجة كي يصفوا مضادا حيويا يستهدف نوعيا المكروب الممرض عوضا عن اختيار مُنْتَج واسع الطيف. ومع أن غسل اليدين بعد معاينة كل مريض هو عمل احترازي أساسي واضح، فإنه غالبا ما يهمل.

وبغية تجنب انتشار العداوي المقاومة لأكثر من مضاد حيوي بين المرضى الراقدين في المستشفيات (الأقسام الداخلية)، يجب وضع هؤلاء المرضى في غرف منفصلة، حيث يشاهدهم فقط أفراد الرعاية الصحية والزائرون الذين يرتدون القفازات والأردية الطبية gowns؛ ويتوجب أن تستمر هذه الممارسة.

تُعَدُّ سهولة الحصول على المضادات الحيوية، وهو ما يبدو في هذا الرسم الهزلي، عاملا رئيسيا في نشوء المقاومة للمضادات الحيوية. وتبين القائمة التالية بعض الخطوات الفورية التي قد تساعد على التحكم في هذه المشكلة.

فيما يتعلق بالأطباء

•اغسل يديك جيدا إثر زيارة كل مريض.

•لا تذعن لرغبة المريض في وصف مضادات حيوية غير ضرورية.

•صف مضادا حيويا يستهدف فقط طيفا ضيقا من البكتيريا كلما أمكن ذلك.

•اعزل ـ في غرفة مستقلة ـ مرضى المستشفى ممن يعانون عداوي تقاوم عدة أدوية.

•كن على علم تام ومستمر بالبيانات (المعطيات) المحلية الخاصة بمقاومة المضادات الحيوية.

فيما يتعلق بالمستهلكين

•لا تطلب مضادات حيوية.

•عندما تُعطى مضادا حيويا، تناوله كما هو موصوف تماما، واستكمل مسار المعالجة إلى نهايته ولا تدخر بعض حبات الدواء لاستعمالٍ تال.

•اغسل الفواكه والخضراوات جيدا وتجنب تناول البيض النيئ واللحم الناقص الطهي، وعلى الأخص المطحون(10) منه.

•لا تستعمل الصابون والمنظفات الأخرى المحتوية على مواد كيميائية مضادة للبكتيريا إلا عند حماية مريض ضعفت وسائل دفاعه.

إن اكتشاف مضادات حيوية جديدة يوفر خيارات أكثر للمعالجة. ففي الثمانينات اعتقد مصنّعو الأدوية بأنه تم التغلب تقريبا على الأمراض المعدية، فأنقصوا كثيرا من بحثهم عن مضادات حيوية إضافية. فإذا ما أخفق في تلك الفترة مضاد حيوي ما، فهنالك آخر سيفلح (على الأقل في البلدان الصناعية حيث المدد وفير). ولكن مع انتهاء هذه الحقبة الذهبية، يحاول الباحثون مرة أخرى اكتشاف مضادات حيوية جديدة. ولكن مما يؤسف له هو أن عددا قليلا من الأدوية قد ينجح قريبا في اجتياز الحواجز التقنية والتنظيمية التي يحتاج إليها الوصول إلى السوق. وعلاوة على ذلك، فإن تلك المضادات الحيوية التي ستكون جاهزة عما قريب تشبه بنيويا المضادات الحيوية المتاحة حاليا؛ وقد يحدث بسهولة أن تصادف بكتيريا تمتلك سلفا دفاعات ضدها.

ويعمل الباحثون أيضا ـ والقلق يساورهم بشأن الاعتبارات المذكورة آنفا ـ على اكتشاف استراتيجيات تهب حياة جديدة للمضادات الحيوية المتوافرة حاليا. إن كثرة من البكتيريا تتملص من البنسلين والمركبات القريبة منه بتركيب إنزيم البنسليناز، الذي يقوِّض هذه المركبات. ويتوفر حاليا في الصيدليات ترياق (درياق)يحتوي على مثبط للبنسليناز، يحول دون تقوض البنسلين، وبذا يحرر المضاد الحيوي ويجعله يعمل على نحو سوي. ومن بين الاستراتيجيات التي هي قيد الدراسة، يقوم مختبري في جامعة تفتس بتطوير مركب يلجم مضخة مكروبية تقذف بالتتراسكلين خارج البكتيريا. فإذا ما تم إبطال عمل هذه المضخة، فإن بوسع التتراسكلين عندئذ أن يخترق الخلايا البكتيرية اختراقا فعالا.

اعتبارات التأثير في البيئة

ومع تقديرنا لإنجازات البحوث الصيدلانية، فإن العكس الشامل لمشكلة المقاومة البكتيرية يقتضي من مسؤولي الصحة العامة والأطباء والمزارعين وآخرين غيرهم أن ينظروا إلى تأثيرات المضادات الحيوية بمنظار جديد. ففي كل مرة يُعطى مضاد حيوي، سيزداد الجزء المقاوم من البكتيريا في الأفراد المعالجين، وبشكل كامن في الآخرين. وتبقى هذه الذراري المقاومة فترة من الزمن ـ وغالبا مدة أسابيع ـ بعد انقضاء المعالجة.

وتتمثل الطريق الرئيسية للقضاء على الذراري المقاومة في تصديها للأشكال الحساسة، والتي تبقى في الشخص المعالج ـ أو تصل إليه ـ إثر إيقاف استعمال المضاد الحيوي؛ إذ تتمتع الذراري الحساسة، في حال غياب المضاد الحيوي، بأفضلية ضئيلة للبُقْيَا؛ ذلك أن على البكتيريا المقاومة أن تحوّل بعض طاقتها المفيدة من التكاثر إلى الحفاظ على الصفات المقاومة للمضاد الحيوي. فإذا ما كانت الذراري الحساسة موجودة أصلا، ولم يُقْضَ عليها بمزيد من المضاد الحيوي، فإنها ستكسب المعركة وتسود.

إن تصحيح مشكلة المقاومة يقتضي إذًا تدابير محسنة لاستعمال المضادات الحيوية واستعادة البكتيريا الحساسة لهذه الأدوية. فإذا ما تم القضاء على كافة مستودعات البكتيريا الحساسة، فإن الأشكال المقاومة لن تواجه تنافسا على البُقيا وستستمر إلى الأبد.

وفي عالم مثالي سوف يدرك مسؤولو الصحة العامة مدى مقاومة البكتيريا المعدية والحميدة للمضادات الحيوية في مجتمع ما. وبغية معالجة مُمرض نوعي، على الأطباء أن يحبذوا المضاد الحيوي الذي يغلب أن يلقى مقاومة ضئيلة من جانب أي بكتيريا موجودة في المجتمع. كما أن عليهم إعطاء كمية كافية من المضاد الحيوي للتخلص كليا من العدوى، وألا يطيلوا مدة المعالجة أكثر من اللازم لئلا يتم القضاء على كل البكتيريا الحيادية (الحساسة المتفرجة) الموجودة في الجسم.

وعلى واضعي الوصفات الطبية أن يأخذوا في اعتبارهم أيضا عدد الأفراد الآخرين الموجودين في المكان ذاته والذين يعالجون بالمضاد الحيوي نفسه. فإذا كان عدد المرضى الذين يعالجون في جناح ما من مستشفى (مشفى)بمضاد حيوي معين كبيرا، فإن الكثافة المرتفعة للاستعمال ستُبقي حتما على الذراري المقاومة لذلك الدواء، في حين أنها ستقضي على الذراري الحساسة له. وسيكون التأثير البيئي والحالة هذه أشد اتساعا مما لو وزعت الكمية الكلية على عدد أقل من الأفراد. وعندما يُدخِل الأطباء في اعتباراتهم التأثيرات المتوقعة التي ستتعدى مرضاهم، فقد يقررون وصف مضادات حيوية تتباين من مريض لآخر أو من جناح لآخر، فيضعفون بذلك القوة الانتقائية للمقاومة تجاه دواء بعينه.

وبمعنى آخر، يمكن للأطباء ومسؤولي الصحة العامة أن يتصوروا ما يسمى «عتبة المضاد الحيوي»: أي مستوى لاستعمال المضاد الحيوي بوسعه تصحيح العداوي في المستشفى أو في مجتمع ما، مع بقائه دون مستوى العتبة التي ستشجع بقوة انتشار الذراري المقاومة، أو ستقضي على عدد كبير من البكتيريا المنافسة الحساسة. إن إبقاء مستويات المعالجة دون العتبة سيتضمن إمكان ترميم الفلورة المكروبية الأصلية في فرد أو مجتمع ما ترميما سريعا بعد إيقاف المعالجة، وذلك بوساطة البكتيريا الحساسة الموجودة في الجوار.

والمشكلة، بلا ريب، هي أنه لا يعرف أحد بعد كيف يحدد موقع تلك العتبة، ويفتقر معظم المستشفيات والمجتمعات إلى بيانات تفصيلية عن طبيعة المجموعات المكروبية لديهم. ولكن إذا ما كرس الباحثون لهذه المشكلة بعض الجهد، فبوسعهم الحصول على المعلومات المبتغاة.

وستستدعي السيطرة على مقاومة المضادات الحيوية على نطاق عالمي واسع تعاونا بين البلدان كافة، وجهودا منسقة تقدم للجماهير في العالم كله تثقيفا عن مقاومة الأدوية وعن مضار الاستعمال غير الصحيح للمضادات الحيوية. وكخطوة في هذا الاتجاه، تحاول مجموعات مختلفة اقتفاء ظهور ذرار بكتيرية مقاومة. فمثلا، تراقب منظمة عالمية هي اتحاد الاستعمال الحصيف للمضادات الحيوية(11) liance for The Prudent Use of Antibioticsمنذ عام 1981 ظهور أمثال هذه الذراري على نطاق العالم كله. ويتبادل أفراد هذه المجموعة المعلومات في أكثر من تسعين بلدا. كما أنها تصدر كتيبات تثقيفية للجمهور وللعاملين في المجالات الصحية.

لقد حان الوقت كي يقبل المجتمع العالمي البكتيريا كمكونات سوية مفيدة عموما للعالم كله، وألا يحاول القضاء عليها إلا عندما تسبب المرض. ويتطلب عكس (قلب) المقاومة إدراكا جديدا للنتائج العامة لاستعمال المضادات الحيوية؛ وهو منظور مهم ليس من أجل شفاء الأمراض البكتيرية الحالية، بل أيضا للحفاظ ـ على المدى البعيد ـ على المجتمعات المكروبية، كي يستمر بقاء البكتيريا الحساسة للمضادات الحيوية، لتسود تنافسيا على الذراري المقاومة. إن توعية على هذا النسق ينبغي أن تؤثر في استعمال الأدوية في مكافحة الطفيليات والفطور والڤيروسات. ولأن استهلاك هذه الأدوية يتزايد حاليا تزايدا مثيرا، فإن مقاومة مقلقة لهذه المكروبات شرعت بالتعاظم أيضا.


 المؤلف

Stuart B.Levy

أستاذ البيولوجيا الجزيئية والمكروبيولوجيا وأستاذ الأمراض الباطنية ومدير مركز وراثيّات التلاؤم ومقاومة الأدوية في كلية طب جامعة تفتس Tufts. كما أنه رئيس اتحاد الاستعمال الحصيف للمضادات (الصادات) الحيوية، والرئيس المنتخب للجمعية الأمريكية للمكروبيولوجيا.


مراجع للاستزادة 

THE ANTIBIOTIC PARADOX: HOW MIRACLE DRUGS ARE DESTROYING THE MIRACLE. S. B. Levy. Plenum Publishers, 1992.

DRUG RESISTANCE: THE NEW APOCALYPSE. Special issue of Trends in Microbiology, Vol. 2, No. 10, pages 341-425; October 1, 1994.

ANTIBIOTIC RESISTANCE: ORIGINS, EVOLUTION, SELECTION AND SPREAD. Edited by D. J. Chadwick and J. Goode. John Wiley & Sons, 1997.

Scientific American, March 1998


(*) The Challenge of Antibiotic Resistance

(1)(التدرن) tuberculosis

(2) ribosomes، وهي بنى توجد في سيتوپلازم الخلية وتقوم بصنع بروتينات جديدة.

(3) وهي مركبات تقتل الجراثيم أو تثبط نموها، ولكن سميتها الشديدة تحول دون إدخالها الجسم؛ أي تستعمل «استعمالات خارجية» فقط.

(4) هي حلقات (عُرى) دقيقة من الدنا DNA توجد في البكتيريا خاصة وتساعدها على البُقْيا في ظروف بيئية غير مواتية. (التحرير)

(5) انظر الهامش ص18.

(6) survival

(7) حب الشباب (حب الصِّبا).

(8) الأحياء المكروية ( الصغرية، المجهرية). (التحرير)

(9) التي لا تتأثر بالمعالجة. (التحرير)

(10)ground

(11)(P.O.Box 1372, Boston,MA 02117,U.S.)

Comments

comments