منظمة غير ربحية تثبت أن تطوير الأدوية لا يحتاج بالضرورة إلى مليارات الدولارات.. فهل يمكن أن ينجح نموذجها على نطاق أوسع؟
في البداية، كان هناك التسلق والتدحرج في سيارة جيب قديمة لمدة ثماني ساعات، ثم حان الوقت لعبور النهر في قارب الكانو الصغير. وعندما وصلت ناتالي شتروب ورجافت أخيرًا إلى وجهتها؛ وهي عيادة في قلب جمهورية الكونغو الديمقراطية، كانت مرهقة جدًّا، ولكن العمل الحقيقي ـ حسبما اكتشفت ـ كان قد بدأ للتوّ.
كان ذلك في يوليو 2010، وكانت العيادة على وشك بدء تجارب لعلاج مرض النوم، وهو مرض استوائي مميت. وعلى الرغم من ذلك.. لم تكن مستعدة على الإطلاق. كان مِن المفترَض أن تصل الثلاجات وأجهزة الكمبيوتر والمولِّدات والوقود عن طريق الشحن. وكان يتوجب تدريب العاملين الصحيِّين المحليين على جمْع البيانات باستخدام أدوات غير مألوفة بالنسبة لهم. كما كانت هناك حاجة إلى خطط للطوارئ، إذا أدى النزاع المسلح إلى تفريق المشارِكين في الدراسة، وهو احتمال وارد جدًّا في هذه المنطقة التي مزَّقتها الحرب.
كانت هذه حالة مختلفة جدًّا عن حياة ورجافت السابقة كمسؤولة تنفيذية كبيرة في مجال الصناعات الدوائية، حيث كانت المستشفيات التي أوكلت إليها إجراء التجارب نظيفة، وجيدة الإمكانيات، وكان الوصول إليها سهلًا، لكن ورجافت ـ التي أصبحت الآن المديرة الطبية لمبادرة أدوية للأمراض المُهمَلَة (DNDi) المبتكرة ـ كانت واثقة من أن العيادة ستتمكن من تسيير العمل. وقد كانت على حق.. فبِتَوَفُّر بيانات من هذا الموقع وغيره، ستسعى مبادرة أدوية للأمراض المُهمَلَة في العام المقبل للحصول على تصريح بتداول أقراص لعلاج مرض النوم، تُسمَّى “فيكسينيدازول” fexinidazole، من شأنها أن تشكِّل إضافة كبيرة لخيارات العلاج المتاحة حاليًّا: نظام شاق من الحُقَن الوريدية، وعقار قائم على الزرنيخ، عمره 65 عامًا، وقد يكون مميتًا.
تُعَدّ المبادرة بمثابة قصة نجاح غير متوقَّعة في مجال تطوير الأدوية باهظة الثمن، ذلك المجال المليء بالتحديات.. فخلال ما يزيد قليلًا على عقد من الزمن، تمكَّنت المجموعة من الحصول على تصاريح لستة علاجات لكلٍّ من مرض النوم، والملاريا، ومرض شاجاس، وأحد أشكال داء الليشمانيات، يُدعى “كالازار” kala-azar. كما تقوم بتطوير 26 دواءً آخر. وقد أنجزت ذلك كله بميزانية قدرها 290 مليون دولار أمريكي فقط؛ أي ما يعادل حوالي ربع ما تنفقه شركة أدوية عادية لتطوير دواء واحد فقط. يشبه المبادرةَ في نجاحها نموذجُ مشارَكة تطوير المنتجات (PDP)، وهو نسق من أنساق المنظمات غير الهادفة إلى الربح، لاقى رواجًا في بدايات العقد الأول من القرن الحالي. تَضْمَن مشارَكة تطوير المنتجات تكلفة منخفضة، عن طريق التعاون مع الجامعات، والحكومات، وشركات الأدوية. ونظرًا إلى أن الأمراض التي يستهدفونها تصيب عادةً الناس الأكثر فقرًا في العالم، فهي مهمَلة من قِبَل الشركات الهادفة إلى الربح، وبالتالي فإن مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” ـ إلى جانب الجماعات المشابِهَة لها ـ تواجه القليل من الضغوط التنافسية، كما تواجه عقبات أقل؛ لإثبات أن أدويتها تحسِّن الحياة إلى حدّ كبير.
ومؤخرًا، بدأ واضعو السياسات يتساءلون عما إذا كانت أساليبهم ستنجح على نطاق أوسع، أم لا. تقول سيوري مون، الباحثة في مجال الصحة العالمية في كلية هارفارد تي إتش تشان للصحة العامة، كمبريدج، ماساتشوستس، التي درست مشارَكات تطوير المنتجات، وانضمت إلى مجلس إدارة مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” في عام 2011: “لفترة طويلة، نظر الناس إلى عملية البحث والتطوير على أنها معقدة، لدرجة تجعل تنفيذها ممكنًا فقط عن طريق كبرى الشركات الهادفة إلى الربح في العالم”، وتضيف قائلة: “أعتقد أننا وصلنا اليوم إلى مرحلة يمكننا فيها البدء في الاستفادة من خبرتهم؛ وتطبيقها على الأمراض غير المُهمَلَة”.
في هذا السياق، بدأت مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” البحث عن بدائل لأدوية التهاب الكبد الوبائي (سي) باهظة الثمن، وتقود جهودًا لابتكار مضادات حيوية لعلاج الحالات المقاوِمة للأدوية، وهي مشكلة تبدي شركات الأدوية تباطؤًا في مواجهتها. في حال نجاحها، سيتمكن هذا العمل من تحدي الافتراضات القياسية المتعلقة بتطوير الأدوية، ومن المحتمل أن يكبح جماح الأسعار المتزايدة للأدوية. يقول المدير التنفيذي برنارد بيكول: “لا يمكننا عقد مقارنة دقيقة بين حساباتنا المالية، وحساباتهم، لكننا نعتقد أن مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” يمكنها إثبات أن نموذجًا مختلفًا للبحث والتطوير ممكن التطبيق”.
خط الإنتاج
عندما حازت منظمة أطباء بلا حدود “MSF” الطبية الخيرية على جائزة “نوبل” للسلام في عام 1999، انتقد أعضاؤها عدم توفُّر الأدوية المنقِذة للحياة، المخصَّصة لأمراض الفقراء، واستخدموا أموال الجائزة لإطلاق مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة”. وتولَّى بيكول ـ الفرنسي اللبق، الذي عمل مع “منظمة أطباء بلا حدود” لمدة 20 عامًا ـ القيادة عندما أُطلقت المبادرة في جنيف، سويسرا، في عام 2003. كان المديرون التنفيذيون لشركات الأدوية متشككين؛ فتطوير الأدوية عملية معقدة، ومكلفة، وتستغرق عقودًا. يقول فرانسوا بومبارت، المدير الطبي في شركة “سانوفي” Sanofi للأدوية، التي تتخذ من باريس مقرًّا لها: “في البداية، رأينا مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” مبادرة للهواة إلى حدّ ما، حتى إننا اعتقدنا أنه لا يمكنهم أن يكونوا جادِّين”.
بدأ بيكول وأعضاء فريقه مشروعهم بخطوات محسوبة. وفي عام 2001، نادت “منظمة الصحة العالمية” بتطوير أدوية مضادة للملاريا، مكوَّنة من مواد تستطيع الحدّ من انتشار المقاوَمة للعقار الوحيد المتوفر، وهو “الأرتيميسينين”، ولكن فقر معظم الناس الذين يحتاجون إلى الأدوية المضادة للملاريا كان يعني أن الحافز الموجود أمام القطاع الخاص لابتكار واختبار هذه العلاجات المركّبة، حافز ضئيل. اتصل بيكول بشركة “سانوفي” ـ المالكة لاثنين من علاجات الملاريا، أحدهما يستند إلى مادة الأرتيميسينين، والآخر إلى مادة أمودياكين، الأبطأ مفعولًا ـ واقترح عليهم صفقة، تقوم بموجبها المبادرة بتمويل تجارب إكلينيكية على قرص يجمع بين العقارين، وإجرائها. وفي المقابل، لن تسجل “سانوفي” براءة اختراع الأقراص، وستبيع الدورة العلاجية للبالغين بما لا يزيد على دولار أمريكي واحد، ونصفه للأطفال. يقول بومبارت: “بالنسبة لي، بدا الأمر غير معقول، وشديد العدوانية، لأن ثمن العقارين منفصلين يعادل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الثمن المقترَح”.
أقنع بيكول “سانوفي” بأن هذه الخطوة ستكون جيدة للصورة العامة للشركة. وقد أبدى بعض التساهل، بحيث سمح لشركة “سانوفي” بأن تنصّ على إمكانية الوصول إلى السعر المنخفض على نحو تدريجي. واتضح فيما بعد ـ بحلول الوقت الذي تمت فيه الموافقة على الأقراص في عام 2007 ـ أن تكاليف التصنيع انخفضت بما فيه الكفاية؛ لكي تتمكن الشركة من الوصول إلى السعر المستهدَف تمامًا منذ البداية. ومنذ ذلك الحين، تم توزيع مئات الملايين من هذه الأقراص في أفريقيا. وبأخْذ كافة المعطيات بعين الاعتبار، تكلفت المبادرة لتنفيذ المشروع حوالي 14 مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ صغير جدًّا في عالم تطوير العقاقير. وقد تمكنت منذ ذلك الحين من تكرار العملية لتطوير علاجات مركبة أخرى (انظر: “الأدوية مخفَّضة الثمن”).
وعلى الرغم من أن تلك الطريقة تحسِّن العلاجات الحالية، إلا أن بعض توليفاتها لا يزال غير كافيًا، فعلى سبيل المثال.. يقلِّل عقار NECT لعلاج مرض النوم ـ الذي طوَّرته مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” ـ من جرعة العلاج القياسية من 56 إلى 14 حقنة وريدية. ولا يزال هذا يمثّل مشكلة في البلدان المتأثرة، فقد يكون من الصعب الحصول على الإبر النظيفة، كما أن الإقامة الطويلة في المستشفى كثيرًا ما تكون مستحيلة. إنّ الناس في حاجة إلى أقراص سهلة التناول.
يُعَدّ تطوير الأدوية من الصفر مهمة شاقة ومكلفة؛ تبدأ بتجارب على مئات الآلاف من المواد الكيميائية في المختبر، بحثًا عن مادة تقضي على العامل المُمْرِض، دون الإضرار بالمضيف. ولا تمتلك مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” مختبَرًا، ولذا.. فهي تستعين بمشارَكات، وتبحث في مكتبات المركّبات التي تبتكرها شركات الأدوية والتقنية الحيوية عن طرف الخيط المؤدي إلى أدوية واعدة. وهناك شركات عديدة مستعدة لإتاحة الوصول إلى هذه المكتبات الثمينة، لأن الأمراض التي تستهدفها المبادرة لن تسفر عن أدوية رائجة على نطاق واسع، وبالتالي لن تتعارض مع مصالح تلك الشركات. تتعاقد المبادرة لاختبار أدويتها مع مراكز فحص عالية الكفاءة، مثل تلك التي في معهد باستور كوريا في سيونجنام، وجامعة دندي في المملكة المتحدة. يقول روب دون، مدير الاكتشافات والبحوث ما قبل الإكلينيكية في مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة”: “إننا نستخدم الأسلوب نفسه الذي تتبعه شركات الأدوية، ولكننا نعمل بتكلفة أقل”.
في عام 2007، أثمرت جهود كهذه عن “فيكسينيدازول”، وهو مركّب بدا واعدًا تجاه علاج الطفيليات وحيدة الخلية، ولكن تم استبعاده قبل الوصول إلى مرحلة التجارب الإكلينيكية، فأخذته المبادرة وحَوَّلَته إلى أقراص، ونقلته إلى فريقها للتطوير الإكلينيكي بعد ذلك بعامين.
تواصلت المبادرة مع “سانوفي” مجددًا، واعدةً بالاهتمام بالتجارب، إذا تمكنت الشركة من التقدم بطلب للحصول على موافقة الجهات التنظيمية. وقد حذَّرَتها “سانوفي” من أن التجارب على الإنسان لن تكون سهلة، لأن مرض النوم ليس شائعًا، ويميل المصابون به إلى العيش في مناطق نائية غير مستقرة، ولكنْ نظرًا إلى كون العلاجات الحالية سيئة جدًّا، ترى ورجافت أن أي تحسُّن يأتي نتيجة لاستعمال “فيكسينيدازول” سيكون جليًّا، وتقول: “إن الفَرْق بين ما سنأتي به، وما هو موجود الآن ضخم، ولن تكون بحاجة إلى وضع آلاف المرضى تحت عدسة مكبرة لتراه”. وقد هيّأت ورجافت عدة مواقع لإجراء تجارب صغيرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجمعت بياناتها.
تحدٍّ إكلينيكي
تقول ورجافت إن الدراسات كانت الأصعب على الإطلاق من بين ما أَجْرَته من دراسات سابقة.. فبالإضافة إلى التحديات اللوجستية، اندلعت الحرب الأهلية في جمهورية أفريقيا الوسطى بعد فترة وجيزة من انطلاق الدراسة، وسَطَتْ الجماعات المتمردة مرارًا على إحدى العيادات هناك، وهَدَّدَت الجَرّاح الكونغولي الذي يقود التجربة. وتضيف ورجافت: “إنني أضع عصارة طاقتي في كل مشروع. ويبدو الأمر كما لو أني أستخدِم ملاقط لتوليد طفل صغير، ليتضح أن هذا الطفل فيل صغير”.
ستختتم التجارب النهائية على فيكسينيدازول هذا العام، وتأمل ورجافت أن تُمْهَر البيانات بختم المنظِّمِين، للموافقة عليها. وقد بلغت كلفة المشروع حتى الآن 45 مليون دولار أمريكي، ومِن المنتظَر أن يساعد 21 مليون شخص يواجهون خطر الإصابة بالمرض في أفريقيا. وفي غضون بضعة أشهر، ستطْلِق ورجافت تجربة أخرى على عقار جديد كليًّا، يؤخذ عن طريق الفم (يُدعى SCYX-7158)؛ قد يتمكن من علاج الأشخاص الذين يعانون من مرض النوم خلال أيام قليلة. وتقدِّر مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” أن تطويره حتى الحصول على الموافقة عليه سيكلِّف حوالي 50 مليون دولار أمريكي.
تحطيم المليارات
لأكثر من ثلاثة عقود، دأب الاقتصاديون في مركز “تافتس” لدراسة تطوير العقاقير في بوسطن، ماساتشوستس، على جمع بيانات المِلْكية من شركات الأدوية، واستخدموها لحساب متوسط تكلفة تطوير دواء جديد. وأشار أحدث تقدير إلى أن هذا المتوسط يصل إلى 1.4 مليار دولار أمريكي. وتُستخدم هذه البيانات لتبرير الأسعار الفلكية للأدوية؛ فالشركات يجب أن تعوِّض استثماراتها، ولكنّ كثيرين لا يعتقدون أنها يجب أن تتكلّف كل هذه التكلفة، حتى إن أندرو ويتي، الرئيس التنفيذي لشركة الأدوية العملاقة جلاكسو سميث كلاين (GSK) ـ التي تتخذ من لندن مقرًّا لها ـ يَعتبِر التقديرات المليارية “واحدة من الأساطير الكبرى في هذه الصناعة”. وهو يعزو التكاليف الضخمة إلى إنفاق الكثير من الوقت في المحاولات الفاشلة؛ فمِن الوارد إعدام العقاقير المرشحة، نتيجة لمخاوف تتعلق بالسلامة، أو بضَعْف الفعالية، أو لمخاوف ذات صلة بالربحية. ويرى ويتي أن الشركات يمكنها توفير المال، عن طريق التخلِّي عن النماذج الفاشلة في وقت مبكر. ويقول آخرون إنّ هذا الرقم مُبَالَغ فيه، نتيجة للقيام بتجارب كبيرة ومستفيضة، فقط لإثبات أن العقار الجديد يعمل أفضل قليلًا من عقار موجود فعلًا.
وعن طريق حساب متوسط تكلفة المشروعات التي قامت بها حتى الآن، تقول مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” إنها تستطيع تطوير عقار جديد، بتكلفة تتراوح بين 110 و170 مليون دولار أمريكي. وكما هو الحال بالنسبة إلى تقديرات “تافتس”، فإن هذه الأرقام تتضمن التكلفة النظرية للمحاولات الفاشلة.
تعترف المبادرة بأنها تتمتع بامتيازات لا تتوفر لدى شركات الأدوية؛ فتكاليفها العامة منخفضة، لأن تنظيمها افتراضي، وربما تطالِبها منظمات البحوث التي تتعاقد معها بدفع مبالغ أقل مما تطالِب به شركة ربحية. كما تعتمد المبادرة على مستشارين علميين يعملون لقاء أجر منخفض، لأنهم يستمتعون بالمشاركة في إعداد أدوية منقِذة لحياة الناس، دون وضع اعتبار للمنافسين والمستثمرين والتسويق. يقول ريتشارد برجستروم، المدير العام للاتحاد الأوروبي للصناعات والجمعيات الصيدلانية في بروكسل: “تحصل مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” على الكثير مجانًا. وفي المقابل، تقوم شركاتي بالكثير من الأعمال الخيرية، وكذلك تفعل الجامعات”.
ومع ذلك.. تَعتقِد المنظمة أن الإسهامات العينية من هذا النوع تمثل 10-20% فقط من نفقاتها. إنها توفر أكثر من ذلك بكثير، من خلال التعاون الفعال (مثل تجنُّب الجهود المضاعفة، عن طريق البحث في المكتبات المجمعة)، والتركيز على الأدوية اللازمة بشدة. كما يمكن للتجارب الإكلينيكية أن تكون أصغر وأسرع وأقل كلفة، عندما لا يصارع القائمون عليها من أجل إظهار تحسينات بالكاد تُلحظ. وتعدِم مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” المركّبات المرشحة، إذا فشلت من ناحية السلامة، أو الفعالية فقط، وليست مضطرة للقلق بشأن إمكانية التسويق. وعلى النقيض من ذلك.. عَمَدَتْ شركات ربحية إلى تجميد العقاقير المرشحة لعلاج التهاب الكبد الوبائي (سي)، بعد أن طرحت شركة “جلياد ساينسِز” Gilead Sciences ـ ومقرّها مدينة فوستر، كاليفورنيا ـ عقارًا قويًّا. يقول دون: “إن غالبية إخفاقات البحث والتطوير في الصناعات الدوائية تجاريّة أكثر منها علمية. وسنظل ماضِين قدمًا، إلى أنْ يفشل الدواء في الوصول إلى السوق، أو يفشل علميًّا”.
وقد حازت مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” على احترام هذه الصناعة، على الرغم من أن تأسيسها التنظيمي كان مناهِضًا لشركات الأدوية الكبرى. يقول جون بِندر، نائب رئيس العلاقات الحكومية في شركة “جلاكسو سميث كلاين”: “على الرغم من أن مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” خرجت من رحم “منظمة أطباء بلا حدود”، إلى أنها لا تسمح لوجهات النظر الأيديولوجية بعرقلة مسيرة تقدُّمها”. ويشيد بِندر وسواه بمهارات بيكول التفاوضية، وبالنهج العملي الذي تتبعه المبادرة لمواجهة تحديات التطوير.
وقد لاحظ صنّاع القرار الأمر أيضًا.. ففي العام الماضي، طلبت “منظمة الصحة العالمية” من مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة” أن تضع في اعتبارها تطوير مضادات حيوية لعلاج حالات العدوى المقاوِمة للأدوية في العالم النامي. وفي مايو الماضي، أعلنت المبادرة أنها ستبدأ مشارَكة أبحاث وتطوير المضادات الحيوية العالمية “جارد” GARD بتمويل مبدئي، قيمته 2.2 مليون دولار. ستبدأ “جارد” دمْج مضادات حيوية موجودة بالفعل، وإعادة توجيهها لعلاج بعض الأمراض، ومن ضمنها السيلان، وحالات العدوى لدى الأطفال حديثي الولادة. وتراقب ماريا إسفيلد ـ مستشارة الأبحاث في وزارة الصحة الهولندية ـ المشروع عن كثب، وتقول: “إننا قلقون بشأن ارتفاع تكاليف الأدوية، وننظر إلى “جارد” باعتباره اختبارًا لمدى إمكانية نجاح نموذج المبادرة في تطوير عقاقير في العالم الغربي”.
الأمر ليس مقنعًا للجميع. يقول الخبير الاقتصادي رامانان لكسمينارايان ـ مدير مركز ديناميات واقتصاديات وسياسات الأمراض، في واشنطن العاصمة ـ إن شركات الأدوية لديها حافز لتصنيع المضادات الحيوية المخصصة لحالات العدوى المقاوِمة لأدوية متعددة، لأن المرضى في الولايات المتحدة وأوروبا سيدفعون للحصول عليها، ولا تستطيع المنظمات غير الربحية أن تأمل في منافستها. وبمجرد أن تتوفر الأدوية، كما يقول، يمكن للجهات الداعمة أن تضمن جَعْلها في متناول الجميع.
اعترض بيكول على ذلك؛ فهو لا يعتقد أن الإعانات، والتبرعات، أو مستويات التسعير المتدرِّجة يمكنها أن تضمن جعل الأدوية في متناول الجميع. ويقول: “إننا في حاجة إلى منتجات مناسِبة، وسوق مستدامة لتلك المنتجات”. لم تتحقق تلك الظروف بالنسبة إلى حالات أخرى؛ فأدوية جلياد لالتهاب الكبد الفيروسي (سي) ـ على سبيل المثال ـ مُدْرَجة بسعر يتجاوز 74 ألف دولار أمريكي للدورة العلاجية الواحدة. وحسب قول بيكول؛ فإن فاعليتها ضد بعض السلالات الفيروسية موضع شك. وعندما علم هو وفريقه بتجميد بعض العقاقير الأخرى المرشحة لعلاج التهاب الكبد، أطلَق مشروعًا لتحويلها إلى علاجات، يستطيع المزيد من الناس استخدامها وشراءها. كما يحاولون أيضًا دمْج بعض الأدوية الموجودة.
وإذا نجحت المجموعة في إنتاج هذه العقاقير، وفي إنتاج المضادات الحيوية، فستكون قد أظهرت أن نموذجها قابل للتطبيق على الأمراض التي تصيب سكان البلدان المتقدِّمة. يقول بيكول: “آمُل أن نقدِّم دروسًا يمكن أن يستفيد منها الآخرون”، لكن الشركات لن تعتمد ـ ببساطة ـ أساليب مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة”، لأنها لا تحقق أرباحًا. فالمستثمرون الذين يحافظون على استمرارية الشركات يهتمُّون بالمحصِّلة النهائية. يقول بيكول إن التحول سيتطلب تدخلًا حكوميًّا، وإعادة تنظيم لعملية تطوير الأدوية. كما سيتطلب الأمر نظامًا يحدد أولويات العلاجات اللازمة، ويحدد كذلك الشركات والمنظمات التي يمكنها التعاون من أجل تطويرها، كما سيتطلب التمعّن في كيفية إيصال المنتجات النهائية إلى محتاجيها. ويعني ذلك.. التحول عن الحوافز المستنِدة إلى الربح إلى أمور أخرى، مثل الجوائز، والتمويل الحكومي. يقول بيكول إن النهج المعتمِد على الربح اليوم ليس مكلفا فحسب، بل إنه يخذل كثيرًا من الناس.
وعندما تشير ورجافت إلى الاختلافات بين عملها في شركات الأدوية، وعملها في مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة”، فهي لا تفكر في تكاليف البحث والتطوير، بل في قيمة الحياة البشرية. وهي تتذكر إحدى الرحلات إلى موقع لدراسة مرض النوم في الكونغو، حيث جلست على سرير نقّال بجانب امرأة في منتصف نوبة ذهانية، وتحدثت إلى زوجها اليائس. وفي وقت لاحق، علمَتْ أن المرأة نَجَت من الموت بسبب علاج مبادرة “أدوية للأمراض المُهمَلَة”. تقول لي: “عندما ترى ذلك؛ فإنك تدرك قيمة ما تفعله. إننا نحاول علاج أمراض قاتلة، وهذا طِبّ يتسم بالجدية حقًّا”.