عقل المتأمّل

 

التدريبات التأملية التي يزاولها الإنسان منذ آلاف

السنين تعود بفوائد جمة على كل من الجسم والعقل.

 

<M. ريكارد> – <A. لوتز> – <J .R. داڤيدسون>

 باختصار

التأمل هو مسعى قديم يشكل، بصورة أو بأخرى، جزءا من أي ديانة من ديانات العالم تقريبا. وقد أخذت ممارسته، المستمدة من مختلف فروع البوذية، تشق طريقها إلى الفضاء العِلماني في السنوات الأخيرة كوسيلة لتعزيز الهدوء الداخلي وتحسين الشعور بالعافية العامة.

وأشكال التأمل الثلاثة الأكثر شيوعا هي: انتباه مركز focusedattention ويقظة ذهنية mindfulness وشفقةcompassion. وهي الأشكال التي تُمارس حاليا في أي مكان؛ بدءا بالمستشفيات وانتهاء بالمدارس، وغدت تشكل بصورة متزايدة موضوعا للفحص الدقيق في المختبرات العلمية العالمية.

ويفضي التأمل إلى حدوث تبدلات فيزيولوجية في الدماغ – أي إلى تغير حجم النسيج في بعض مناطقه. كما يلمس الممارسون آثاره النفسية المفيدة أيضا، حيث يباتون أكثر سرعة في تفاعلهم مع المثيرات وأقل ميلا إلى التأثر بأشكال الكرب stress المختلفة.

 

عندما وجّهت جمعية العلوم العصبية دعوة إلى <T. گياتسو> [<الدالاي لاما الرابع عشر> (زعيم البوذية التيبيتية)] لإلقاء كلمة في اجتماعها السنوي المنعقد في واشنطن عام 2005، قام بضع مئات من بين أعضائها المشاركين في الاجتماع الذين بلغ عددهم نحو 000 35، بتقديم عريضة يطلبون فيها إلغاء هذه الدعوة لقناعتهم بأنه لا مكان لزعيم ديني في لقاء علمي. ولكن سرعان ما تبين أن هذا الزعيم بعينه لديه سؤال استفزازي، ولكنه مثمر في نهاية المطاف وجدير بالطرح على هذا الجَمع، فقد تساءل: «ما هي الصلة الممكنة بين البوذية، بوصفها تقليدا فلسفيا وروحيا هنديا قديما، وبين العلم الحديث؟»

 

 

و<الدالاي لاما> الذي يُؤثر الأفعال على الأقوال، كان قد بدأ سعيه فعليا إلى العثور على إجابات عن تساؤله الشخصي. ففي ثمانينات القرن العشرين أثار حوارا حول العلم والبوذية أدّى في آخر الأمر إلى تأسيس معهد العقل والحياة(1) المُكرّس لدراسة العلوم التأملية contemplative science. وفي عام 2000 أضاف بؤرة تركيز جديدة إلى دائرة جهوده المذكورة: فقد دشّن الحقل الفرعي الذي نسميه اليوم العلم العصبي التأملي contemplative neuroscience، وذلك من خلال الدعوة التي وجهها إلى العلماء لدراسة نشاط الدماغ لدى المتأملين البوذيين ذوي الخبرة – ويُعرّف ذو الخبرة بأنه من أصبح لديه ما يربو على 000 10 ساعة من الممارسة.

 

 

ومنذ نحو خمس عشرة سنة شارك ما ينوف على 100 ممارس من رهبان البوذية وهُواتها، مع عدد كبير من ممارسي التأمل المبتدئين، في تجارب علمية أجريت في جامعة ويسكونسون – مادسون وفي 19 جامعة أخرى على الأقل. وهذه المقالة هي في حقيقة الأمر حصيلة تعاون بين اثنين من علماء الجهاز العصبي وراهب بوذي تدرب أصلا في مجال البيولوجيا الخلوية.

 

 

لقد بدأت المقارنة بين المسوح الدماغية للمتأملين الذين في جعبتهم عشرات آلاف من ساعات الممارسة وبين مسوح المبتدئين أو اللاممارسين لمعرفة السبب الذي يجعل هذه المجموعة من تقنيات تدريب العقل تتمتع بهذه القدرة الكبيرة على تزويدنا بفوائد معرفية وشعورية. فقد تبين بالفعل أن هناك تداخلا فيما بين مرامي التأمل والعديد من أهداف علم النفس السريري والطب النفسي والطب الوقائي والتربية والتعليم، لا سيما وأن الخلاصة الوافية لما تراكم من أبحاث حتى الآن تشير بوضوح إلى أن ممارسة التأمل قد تكون فعالة في معالجة الاكتئاب والألم المزمن وكذلك في تنمية الشعور بالعافية العامة.

 

 

ويأتي اكتشاف فوائد التأمل متزامنا مع ما توصلت إليه العلوم العصبية مؤخرا من نتائج تُظهر أن الدماغ حتى عند الإنسان البالغ يمكن أن يخضع لتحولات عميقة بفعل الخبرة الحياتية. فهذه الدراسات تُظهر لنا أنه حينما نتعلم كيف ندندن أو نعزف على آلة موسيقية، فإن ثمة تغيرات تطرأ على أدمغتنا عبر عملية تسمى البلاستية العصبية neuroplasticity. فالمنطقة الدماغية المتحكمة في حركة أصابع عازف الكمان يتضخم حجمها تدريجيا كلما ازدادت درجة إتقانه العزف على هذه الآلة. ويبدو أن هناك عملية مماثلة تحدث لدينا عندما نمارس التأمل. ومع أن شيئا لا يتغير في البيئة المحيطة، فإن المتأمل يقوم بنَظْم حالاته الذهنية بطريقة تتيح له التوصل إلى شكل من أشكال الثراء الداخلي، وهو تجربة تؤثر في وظيفة الدماغ وفي بنيته المادية. وما تراكم من بينات جاءتنا بها هذه الأبحاث بات يُظهر أن ممارسة التأمل قادرة على إعادة تركيب أسلاك دارات الدماغ لتوليد آثار لها فوائد صحية؛ ليس فقط في العقل والدماغ، وإنما أيضا في الجسم كله.

 

 

ما هو التأمل؟

 

 

للتأمل جذور تعود إلى الممارسات الصوفية the contemplative practices المعروفة في الديانات الكبرى كلها تقريبا. وقد أدى تداول التأمل بصورة متزايدة من قبل وسائل الإعلام إلى إضفاء معان مختلفة إلى هذه الكلمة. أما نحن، فسوف نأتي على ذكر التأمل باعتباره وسيلة لتنمية وتهذيب الصفات الإنسانية الأساسية؛ كالتوصل مثلا إلى حالة عقلية أكثر استقرارا وصفاء وتحقيق التوازن الانفعالي وتطوير حس الاكتراث باليقظة الذهنية themindfulness وحتى بالشفقة والحنان – وهي صفات تبقى كامنة فينا ما دمنا نوفّر جهدا لتطويرها. والتأمل هو أيضا عملية التعود على ممارسة نمط حياة أكثر هدوءا ومرونة.

 

ومن حيث المبدأ، التأمل عملية بسيطة نسبيا إذ يمكن ممارسته في أي مكان، من دون الحاجة إلى معدات خاصة أو ملابس تدريب. ويبدأ المتأمل تأمله من خلال اتخاذ وضعية مريحة، لا يكون فيها متوترا ولا مسترخيا جدا، ثم ابتغاء التحول الذاتي وتمني العافية وقلّة المعاناة للآخرين. لابد للممارس بعد ذلك من تحقيق الاستتباب لعقله الذي كثيرا ما يكون في حالة من عدم الانضباط ومسكونا بفيض من الثرثرة الداخلية. فالتحكم في العقل يتطلب تحريره من نزعة التكيف الذهني الأوتوماتيكي وتخليصه من التشوش الداخلي.

 

 

 

وسنتفحص هنا ما يحدث في الدماغ أثناء ممارسة ثلاثة أصناف شائعة من التأمل نمت عبر البوذية و تُمارس اليوم في إطار برامج علمانية في المستشفيات والمدارس على امتداد العالم. الصنف الأول، هو تأمل انتباه مركز(2) يهدف إلى ترويض العقل وجعله يركز في اللحظة الراهنة، ويهدف في الوقت نفسه إلى تطوير القدرة على البقاء يقظا تجنبا للشرود. أما الصنف الثاني، فهو اليقظة الذهنية، أو ما يُدعى تأملاً منفتح الرصد open-monitoringmeditation، الذي يسعى إلى تنمية القدرة على تخفيف الشحنة العاطفية الملازمة للوعي المتفاعل مع الانفعالات والأفكار والأحاسيس المتبدية في اللحظة الراهنة لتحاشي خروجها المتزايد عن السيطرة وما يترتب على ذلك من ضائقة ذهنية. وخلال ممارسة اليقظة الذهنية يظل المتأمل، لحظة بلحظة، يقظا حيال أي خبرة يمر فيها دون التركيز في شيء محدد أيا كان. وختاما، هناك صنف آخر من الممارسات يُعرف في التقليد البوذي بالشفقة واللطف الودود compassion and loving kindness ويتميز بأنه يعزز النظرة الإيثارية إلى الآخرين.

 

 

تحت الماسح

 

 

بدأ علماء الجهاز العصبي اليوم باختبار ما يحدث داخل الدماغ أثناء ممارسة مختلف أصناف التأمل. وبمشاركة زملائها، قامت <W. هاسينكامب> التي كانت تعمل في جامعة إيموري آنذاك، باستخدام تقنية تصوير الدماغ لتحديد الشبكات العصبية التي يفعّلها تأمل انتباه مركّز. فقد كان المشاركون يدربون انتباههم داخل الماسح على الإحساس المنبعث من التنفس. ولأن العقل عادة ما يشرد عن الشيء المستهدف خلال هذا الشكل من التأمل، فلا بد للمتأمل من التعرف على ذلك والعمل على استعادة انتباهه وإلحاقه مجددا بنظَم الشهيق والزفير تدريجيا. ففي هذه الدراسة، كان المتأمل مطالَبا بالضغط على زر معين للإخطار بأن ذهنه قد تشتت. وقد حدد الباحثون أربع مراحل للدورة المعرفية: فترة تشتت العقل mind wandering ولحظة إدراك الشرود distraction ومرحلة إعادة توجيه الانتباه ومرحلة استعادة الانتباه المركّز.

 

 

وتستلزم كل مرحلة من هذه المراحل الأربع مشاركة شبكات محددة من شبكات الدماغ. فالجزء الأول من الدورة المذكورة، والمصاحب للشرود، يسبب زيادة في نشاط الشبكة المعيارية (DMN) ا(3) التي تتميز بنطاقها الواسع. فهي تشمل باحات دماغية من القشرة قبل الجبهية الإنسية the medial prefrontal cortexوالقشرة الحزامية الخلفية the posterior cingulate cortex والطَّلل the precuneus والفص الجداري السفلي the inferior parietal lobe والقشرة الصدغية الجانبية the lateral temporal cortex. كما تتميز الشبكة DMN أيضا بأنها تنشط حين يصاب العقل بالتشتت، وأنها تؤدي دورا رئيسيا في تكوين وتحديث نماذج داخلية عن العالم بناء على ذكريات طويلة الأجل تتعلق بالذات أو بالآخرين.

 

 

أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة إدراك الشرود، فتتجلى في باحات دماغية أخرى؛ مثل الجزيرة الأمامية theanterior insula والقشرة الحزامية الأمامية the anterior cingulate cortex. وهي مناطق تابعة لما يسمى شبكة الوثب the salience network التي تقوم بتنظيم ما تعيه الذات من مشاعر قد تفضي بها، مثلا، إلى حالة من الشرود خلال أداء مهمة ما. ويعتقد أن شبكة الوثب هذه تؤدي دورا مفتاحيا أثناء التأمل في استبيان ما يستجد من أحداث وتحويل حركة النشاط من تجمعات إلى تجمعات أخرى من النورونات neurons التي تتكون منها شبكات الدماغ الجسيمة. وقد يكون من شأنها أيضا تحويل الانتباه بعيدا عن الشبكة المعيارية، مثلا.

 

 

وتنطوي المرحلة الثالثة على مشاركة مناطق إضافية – من بينها القشرة قبل الجبهية الظهرانية الجانبية thedorsolateral prefrontal cortex والفص الجداري السفلي الجانبي the lateral inferior parietallobe – وهي مناطق «تُعيد» إلى المرء انتباهه من خلال فصل الانتباه عن أي منبه مُشتت. وفي الختام، تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة التي تواصل فيها القشرة قبل الجبهية الظهرانية الجانبية الاحتفاظ بمستوى عال من النشاط، طالما بقي انتباه المتأمل منصبا على الشيء المستهدف، كالتنفس على سبيل المثال.

 

 

[مسح الدماغ]

أصناف من التجربة التأملية

ما حصل من تقدم في التصوير العصبي وغيره من التقانات مكَّن العلماء من تطوير نظرة ثاقبة عما يحدث في الدماغ خلال ممارسة التأمل البوذي بأشكالة الرئيسية: انتباه مركز، ويقظة ذهنية، وشفقة ولطف ودود. والرسم البياني أدناه يقدم إلينا لمحة عن حلقة الوقائع التي تحدث أثناء ممارسة التأمل من صنف الانتباه المركز – وعما يرافقها من تفعيل لباحات معينة في الدماغ.

انتباه مركز Focused Attention
هذا الصنف من الممارسة يقتضي عادة بأن يركز المتأمل في لحظة الدخول إلى دورة التنفس ولحظة الخروج منها. ولأن العقل يشرد حتى عند ذوي الخبرة، فلا بد من استعادة ما يتم التركيز فيه مرة بعد أخرى. وبفضل دراسة مسح دماغي أُجريت في جامعة إيموري، تَمّ تحديد باحات دماغية معينة بدقة عالية تَهب إلى العمل كلما انصرف الانتباه.

يقظة ذهنية Mindfulness
ويسمى أيضا تأمل منفتح الرصد open-monitoring meditation. وتستوجب اليقظة الذهنية مراقبة المشاهد والأصوات وغيرها من المدركات الحسية، بما في ذلك الأحاسيس الجسدية الداخلية والأفكار، دون الذهاب معها بعيدا. ويبدي المتأملون ذوو الخبرة انخفاضا في نشاط الباحات المتعلقة بالقلق، كالقشرة الجزيرية واللوزة.

شفقة ولطف ودود Compassion and Loving Kindness
في هذا الصنف من الممارسة ينميّ المتأمل شعور الإحسان إلى الأشخاص الآخرين؛ أصدقاء كانوا أم أعداء. وعندما يضع الشخص نفسه مكان شخص آخر، فإن المناطق التي تقدح في دماغه – كالموصل الصدغي الجداري، مثلا – تُبدي زيادة في النشاط.

(1) تشتت العقل Mind Wandering
تصوير تشتت العقل لدى متأمل داخل الماسح يُظهر تألق القشرة الحزامية الخلفية the posteriorcingulate cortex والطَّلَل the precuneus وغيرها من الباحات الدماغية التي تشكل جزءا من شبكة المهام البديلة the default-mode network. وهي الشبكة التي تظل نشطة عندما تبدأ الأفكار بالتشتت.

(2) وعي الشرود Distraction Awareness
يتوقف وعي المتأمل بالشرود على شبكة الوثب the salience network التي تتضمن الجزيرة الأمامية والقشرة الحزامية الأمامية. وما أن يُدرك الشخص المفحوص أن ذهنه قد شرد حتى يضغط على زر معين لإخطار الباحثين بما حدث.

(3) إعادة توجيه اليقظة Reorientation of Awareness
القشرة قبل الجبهية الظهرانية الجانبية والفص الجداري السفلي هما باحتان من باحات الدماغ تساعدان على تخليص الانتباه من حالة الشرود كي يركز مجددا في إيقاع الشهيق والزفير.

(4) الحفاظ على التركيز Sustaining Focus
تستمر القشرة قبل الجبهية الظهرانية الجانبية بنشاطها عندما يظل انتباه المتأمل مسلطا على التنفس لفترات طويلة.

 

وقد راقبنا في مختبرنا بجامعة ويسكونسون أنماطا أخرى من النشاط تختلف باختلاف مستوى خبرة الشخص الممارس. وقد أبدى المتأملون المخضرمون الذين في جعبتهم أكثر من 000 10 ساعة من الممارسة مزيدا من النشاط في هذه المناطق الدماغية المرتبطة بالانتباه، مقارنة بالمبتدئين. ولكننا لاحظنا، على سبيل المفارقة، أن المتأملين المخضرمين الأكثر خبرة يبدون درجة أدنى من النشاط الذي يبديه المخضرمون الذين لا يتمتعون بالقدر نفسه من الخبرة. ويبدو أن المتأملين الأكثر تقدما يكتسبون درجة أعلى من المهارة تمكّنهم من التوصل إلى حالة التركيز الذهني بجهد أقل. وهذه الآثار هي أشبه ما تكون بالآثار المتجلية في مهارة الموسيقيين المخضرمين والرياضيين القادرين على الانغماس في مجريات أدائهم بأقل قدر من الإحساس بالجهد الكبير الذي يبذلونه للتحكم في هذا الأداء.

 

 

ولاستقصاء مفعول الانتباه المركز قمنا أيضا بدراسة المتطوعين قبل وبعد فترة اعتكاف دامت ثلاثة أشهر مارسوا خلالها تدريبات مكثفة من التأمل بمعدل ثماني ساعات يوميا على الأقل. وقد زودناهم بسماعات تَبثُّ أصواتا بتردد معين تتخللها أحيانا أصوات أخرى بطبقة أعلى بقليل. وكان عليهم التركيز في الأصوات الموجهة إلى إحدى الأذنين لمدة عشر دقائق، ثم الاستجابة لما يتخللها دوريا من نغمات عالية الطبقة. وقد وجدنا بعد انتهاء فترة الاعتكاف أن المتأملين، مقارنة بالمجموعة الضابطة(4) control group اللامتأملة، يُبدون درجة أقل من الاختلاف التجريبي البيني trial-to-trial variation في فترات استجابتهم لهذه المهمة التي نُفذّت مرارا وتكرارا من قبلهم وكانت ملائمة تماما لتشتيت الانتباه. وهذه النتيجة تشير إلى أن المتأملين كانوا أفضل قدرة على البقاء يقظين، فاستجابات الدماغ الكهربائية للنغمات العالية الطبقة بقيت في الجلسة الثانية أكثر استقرارا عند المتأملين دون غيرهم.

 

تسجيل المسالك الداخلية لنشاط الدماغ على مُخَطَّط كهربية الدماغ خلال قيام المؤلف المشارك .M< ريكارد> بممارسة التأمل.

 

جريان الوعي

 

 

أما النوع الثاني من التأمل الذي تمت دراسته جيدا، فينطوي أيضا على مشاركة صنف آخر من الانتباه. إذ إن اليقظة الذهنية، أو التأمل المنفتح الرصد، يتطلب من المتأمل أن يحيط علما بكل ما يسمعه ويشاهده وأن يتتبع الأحاسيس البدنية الداخلية وحوار الذات الداخلي. ويظل الشخص على علم بما يحدث دون انشغال مفرط بأي مدرك أو فكرة على حدة، مسترجعا تركيزه اللامرتبط كلما شرد ذهنه. ومع تنامي وعي الشخص بما يحصل في محيطه، يغدو أقل تشوشا بالمنغصات اليومية العادية – كغضب زميل في العمل أو قلق طفل في المنزل على سبيل المثال – كما يتطور لديه شعور بالعافية النفسية تدريجيا.

 

 

وقد سعينا بالتعاون مع <H. سلگتر>، التي كانت آنذاك عضوا في فريقنا بجامعة ويسكونسون، إلى معرفة تأثير هذا النوع من التدريب في اشتغال العقل، وذلك عن طريق قياس قدرة المشاركين على اكتشاف منبهات بصرية كانت تعرض عليهم بسرعة – وهي وسيلة لقياس التأمل من صنف اليقظة الذهنية، وتُدعى هذه الوسيلة في بعض الأحيان أيضا الوعي اللاتفاعلي nonreactive awareness. ولإجراء هذه التجربة فقد استخدمنا مهمة تتطلب من المشاركين التعرف على رقمين يُعرضان على شاشة بسرعة وسط سلسلة متتالية من الحروف. وقد تبين أن المشاركين في كثير من الأحيان لا يرون الرقم الثاني إذا ظهر بعد نحو 300 ميلي ثانية من ظهور الرقم الأول، الأمر الذي يشير إلى ظاهرة تُعرف بظاهرة الوميض الانتباهي attentional blink.

 

أما إذا ظهر الرقم الثاني بعد مهلة قدرها 600 ميلي ثانية، فيمكن اكتشافه بلا صعوبة. ويعكس الوميض الانتباهي حدود قدرة الدماغ على معالجة منبهين اثنين يُعرضان على المراقب بفواصل زمنية قصيرة جدا. والدماغ إذا ما أفرط في تسخير انتباهه لمعالجة العدد الأول، فلا يمكنه اكتشاف الرقم الثاني دائما، وذلك بصرف النظر عن أن المراقب عادة ما يكون قادرا على رؤيته في بعض التجارب. وقد وضعنا فرضية بهذا الصدد تفيد بأن تدريب اليقظة الذهنية يمكن أن يكون قادرا على التخفيف من ميل المراقب إلى أن يظل عالقا أو مستغرقا حين يرى الرقم الأول. إن ممارسة اليقظة الذهنية تنمّي شكلا من أشكال الإدراك الحواسي اللاتفاعلي، ومن المفترض أن يؤدي هذا الشكل من الإدراك إلى تخفيف الوميض الانتباهي. وكما توقعنا، فبعد ثلاثة أشهر من الاعتكاف المشدد كان عدد المرات التي أدركت فيها مجموعة المتأملين كلا الرقمين أعلى بكثير مما حققته المجموعة الضابطة. وقد تجلى هذا التحسن الإدراكي أيضا في تضاؤل نشاط موجة دماغية معينة تتولّد استجابة للعدد الأول. وهذه الموجة التي تُسمى P3b، والتي تتم مراقبتها لتخمين كيف يتم توزيع حصص الانتباه، أوحت إلينا بأن المتأملين كانوا قادرين على تحسين انتباههم بقدر ما كانوا قادرين على تقليص الوميض الانتباهي إلى الحد الأدنى.

 

 

والمواظبة على إدراك أحد الأحاسيس البغيضة بوسعها إضعاف الاستجابات الانفعالية اللاتلاؤمية ومساعدة المرء على تجاوز الشعور الكريه، كما أنها قد تكون مفيدة في التعاطي مع الألم على وجه الخصوص. وقد أجرينا في مختبرنا بويسكونسون دراسات على ممارسين من ذوي الخبرة خلال أدائهم لشكل متقدم من أشكال تأمل اليقظة الذهنية يُدعى حضوراً منفتحاً open presence. وخلال ممارسة الحضور المنفتح الذي يسمى أحيانا وعياً صافياًpure awareness، يكون العقل هادئا ومسترخيا، لا يركز في أي شيء كان – وخاصة إذا كانت معالم هذا الشيء لا تزال بالغة الوضوح – كما يكون العقل أيضا في حالة من اللااستثارة واللاخمول. ويبقى المتأمل في حالة من المراقبة والانفتاح على ما يمر به من خبرات دون القيام بأي محاولة لتفسير الأحاسيس المؤلمة أو تغييرها أو رفضها أو تجاهلها. وقد وجدنا أن الألم لم ينخفض عند المتأملين من حيث الشدة، ولكنه كان أقل إزعاجا لهم مقارنة بأعضاء المجموعة الضابطة.

 

 

وقد أظهرت المقارنة بالمبتدئين أن المتأملين من ذوي الخبرة، وفي الفترة التي تسبق تعريضهم لمنبه مؤلم، يُبدون ضعفا في نشاط مناطق الدماغ المرتبطة بالقلق، أي في القشرة الجزيرية واللوزة. كما أظهرت أيضا أن مناطق الدماغ المرتبطة بالألم لدى المتأملين تعتاد بسرعة أكبر من نظيراتها لدى المبتدئين على الاستجابة لمنبه مؤلم بعد تعرضها له بصورة متكررة. وقد تبين لنا من فحوص أخرى أجريناها في مختبرنا أن التدريب على التأمل يساعد المرء على تحسين قدرته على التحكم، وتدرأ عنه ارتكاسات فزيولوجية أساسية – كالالتهاب أو التأرجح في منسوب أحد هرمونات الإجهاد – خلال أدائه لإحدى المهام المرهقة اجتماعيا؛ كإلقاء كلمة أمام حشد من الناس أو القيام بعملية حساب ذهني أمام لجنة تحكيم صارمة.

 

 

وقد قامت دراسات عدة بتوثيق آثار اليقظة الذهنية المفيدة في أعراض القلق والاكتئاب وقدرتها على تحسين طرز النوم. وعن طريق رصد أفكارهم وانفعالاتهم ومراقبتها عمدا، يمكن لمرضى الاكتئاب، عندما يشعرون بالحزن أو القلق، أن يمارسوا التأمل لترويض ما ينتابهم عفويا من أفكار ومشاعر سلبية بغية التخفيف من طبيعتها الاجترارية(5). ففي عام 2000 أثبت اثنان من اختصاصيي علم النفس السريري <J. تيسديل> [من جامعة كامبريدج آنذاك] و<Z. سيگال> [من جامعة تورونتو] أن مرضى الاكتئاب الشديد الذين عانوا ثلاث دورات اكتئابية على الأقل، ثم مارسوا اليقظة الذهنية مصحوبة بالمعالجة المعرفية(6) لمدة ستة أشهر، تراجع خطر الانتكاس relapse لديهم بنسبة 40% تقريبا في العام الذي يلي بدء المرض. وقد أثبت <سيگال> في الآونة الأخيرة أن هذه المداخلة تتفوق على الدواء الغفل (الپلاسيبو) placebo ولها تأثير وقائي في الانتكاس يماثل تأثير مضادات الاكتئاب بجرعة المداومة المعيارية.

 

 

شفقة وحنان

 

 

أما الشكل الثالث من أشكال التأمل التي تُدرس حاليا، فينمّي مواقف ومشاعر الشفقة والحنان تجاه الآخرين، سواء كانوا من الأقرباء المقربين أم الغرباء أم الأعداء. وتستوجب هذه الممارسة أن يكون المرء مدركا لاحتياجات شخص آخر وأن تكون لديه رغبة عطوفة صادقة في مساعدة هذا الشخص، أو في التخفيف من معاناة الأشخاص الآخرين، من خلال حمايتهم بالذات من سلوكهم الهدام إن وجد.

 

 

ولتوليد حالة من التراحم والشعور بالشفقة، قد يكون على المتأمل أحيانا أن يشعر بما يشعر به شخص آخر. بيد أن امتلاك المرء لانفعالات تتناغم تشاعريا مع انفعالات شخص آخر لا يكفي وحده لتكوين حالة ذهنية عطوفة. فلا بد من أن يكون المتأمل أيضا مدفوعا برغبة غيريّة لمساعدة الشخص الذي يعاني. وقد برهن هذا الصنف من التأمل حول الشفقة والتراحم على كونه أكثر من مجرد ممارسة روحية. إذ تبين أن بإمكانه تقديم مكاسب تفيد العاملين في مجال الرعاية الصحية والمعلمين وغيرهم ممن يكونون عرضة لخطر الإرهاق العاطفي emotionalburnout في ظل ضائقة حلت بهم إثر ما عاشوه من تعاطف عميق مع محنة شخص آخر.

 

 

ويبدأ المتأمل تأمله بالتركيز في شعور لا مشروط من الإحسان والمحبة للآخرين، مصحوبا بتكرار صامت لعبارة تفيد هذا القصد، كعبارة «عسى أن تُغمر جميع الكائنات بالسعادة وأسبابها وأن تكون بعيدة عن المعاناة ومسبباتها.» وفي عام 2008 درسنا متطوعين من ذوي الخبرة ممن سبق لهم ممارسة هذا الصنف من التدريب لآلاف الساعات، فوجدنا زيادة في نشاط العديد من مناطق الدماغ لديهم حين كانوا يصغون إلى أصوات مرهقة. فالقشرة الجزيرية والقشرة البدنية الحسية الثانوية، والمعروفتان بمشاركتهما في الاستجابات التشاعرية وغيرها من الاستجابات الانفعالية، كان النشاط فيهما استجابة للصوت المرهق أكبر لدى ذوي الخبرة منه لدى أعضاء المجموعة الضابطة، الأمر الذي يشير إلى أن المخضرمين باتوا يتمتعون بقدرة متنامية على مشاركة الآخرين مشاعرهم، ولكن من دون أن تصدر عنهم أي إشارة تشي بأنهم دخلوا في حالة من الفيض الانفعالي. إن ممارسة هذا التأمل العطوف تُفضي إلى زيادة في نشاط باحات دماغية أخرى أيضا، مثل المُوصل الصدغي الجداري the temporoparietal junctionوالقشرة قبل الجبهية الإنسية والثلم الصدغي العلوي the superior temporal sulcus، وعادة ما تنشط هذه الباحات الدماغية جميعها حينما نضع أنفسنا في مكان الآخرين.

 

 

وفي الآونة الأخيرة، سعت <T. سنگر> و<O. كليميكي> [من معهد ماكس بلانك للعلوم المعرفية البشرية وعلوم الدماغ في لايبزيگ بألمانيا] وبالتعاون مع واحد منا (<ريكارد>) – إلى تمييز الفروق بين آثار التشاعر empathy وآثار الشفقة في المتأملين. وقد لاحظ هذا الفريق البحثي أن الشفقة والتراحم الإيثاري مرتبطان بالانفعالات الإيجابية، وأشار إلى أن الاستنزاف أو الإرهاق العاطفي يمكن أن يكون في الحقيقة نوعا من أنواع تعب التشاعر empathy fatigue.

 

 

[فائدة التأمل]

تنامي حجم الدماغ

قام باحثون من جامعات عدة باستقصاء ما إذا كان التأمل قادرا على إحداث تغييرات بنيوية في أنسجة الدماغ. وعن طريق التصوير بالرنين المغنطيسي، وجد هؤلاء الباحثون أن عشرين من الممارسين الذين لديهم خبرة في صنف واحد من التأمل البوذي يتمتعون بزيادة في حجم أنسجة الدماغ – في القشرة قبل الجبهية (برودمان 9 و 10) وفي الجزيرة – مقارنة بالمجموعة الضابطة (انظر الرسوم البيانية). ومن الجدير بالذكر أن هذه المناطق تؤدي دورا في معالجة الانتباه والمعلومات الحواسية والأحاسيس الجسدية الداخلية على حد سواء. ولا بد من إجراء دراسات طويلة الأجل في المستقبل لتأكيد هذا الكشف.

 

وبحسب التقاليد البوذية التأملية التي يُستمد منها هذه الصنف من الممارسة، فإن الشفقة لا تؤدي إطلاقا إلى القلق والإحباط، بل تفضي إلى مزيد من التوازن الداخلي ويُعزز القدرة العقلية والقرار الجريء لمساعدة أولئك الذين يعانون. فمثلا، إذا أُدخل طفل إلى المستشفى فإن حضور أمه المحبة إلى جانبه، ممسكة بيده ومطمئنة له بكلمات رقيقة، سيكون وقعه على الطفل حتما أفضل بكثير من وقع القلق الذي تبديه أم تعاني ضائقة تشاعرية مفرطة وليست قادرة على تحمل رؤية طفلها المريض، وتتحرك في الرواق جيئة وذهابا بخطوات سريعة. وقد يفضي الأمر بالأم في الحالة الثانية إلى الدخول في حالة إرهاق burnout أثبتت إحدى الدراسات الأمريكية أنها تعصف بنحو 60% من مقدمي الرعاية ال 600 الذين شملهم الاستطلاع.

 

 

ولمواصلة استقصاء آليات التشاعر والشفقة، قامت <كليميكي> و<سنگر> بتقسيم نحو 60 متطوعا إلى مجموعتين، حيث مارست المجموعة الأولى التأمل المبني على المودة والشفقة، وطُلب إلى المشاركين في المجموعة الثانية المدربة على نظام تجريبي أن ينموا أحاسيس تشاعرية تجاه الآخرين. وقد أظهرت النتائج الأولية أنه بعد أسبوع من ممارسة التأمل المبني على اللطافة الودودة والشفقة، بات الأفراد المبتدِئون يبدون مزيدا من المشاعر الإيجابية والخيّرة خلال مشاهدتهم مقاطع فيديو عن المعاناة البشرية. أما الأفراد الآخرون الذين كرسوا أسبوعا واحدا للنظام التجريبي والرامي إلى تنمية التشاعر فقط، فقد مروا بخبرات انفعالية تتناغم بعمق مع معاناة الآخرين بشتى أشكالها. غير أن هذه الانفعالات كانت تثير في الوقت نفسه مشاعر وأفكاراً سلبية، إضافة إلى أن هذه المجموعة كانت تعيش ضائقة أشد، لدرجة أن أعضاءها لم يكونوا أحيانا قادرين على التحكم في انفعالاتهم.

 

 

وإدراكا منهما لهذه التأثيرات المخلة بالاستقرار، قامت <كليميكي> و<سنگر> بتوسيع البرنامج الخاص بمجموعة التشاعر ليشمل تدريبا إضافيا في التأمل المبني على شفقة ولطف ودود compassion and lovingkindness. ولاحظت الباحثتان بعد ذلك أن هذا التمرين الإضافي له آثار معدّلة للآثار الضارة المرافقة للتدريب التشاعري بمفرده: بمعنى تخفيف الانفعالات السلبية وتعزيز الانفعالات الإيجابية. وقد ترافقت هذه النتائج بتغيرات في باحات دماغية تابعة لعدد من الشبكات الدماغية المرتبطة بالشفقة والانفعالات الإيجابية ومحبة الأم، بما في ذلك القشرة الحجاجية الجبهية the orbitofrontal cortex والمخطط البطني the ventral striatum والقشرة الحزامية الأمامية. إضافة إلى ذلك، فقد استطاعت الباحثتان إثبات أن التدريب على الشفقة لمدة أسبوع واحد يعزز السلوك الاجتماعي في إطار لعبة افتراضية virtual game طُوّرت خصيصا لقياس القدرة على مساعدة الآخرين.

 

 

مدخل إلى الوعي

 

 

يستكشف التأملُ طبيعةَ العقل، موفراً للمتأمِّل طريقة تتيح له دراسة الوعي والحالات الذهنية الذاتية من منظوره. وبالتعاون مع متأملين بوذيين من ذوي الخبرة في جامعة ويسكونسون، قمنا بدراسة نشاط الدماغ الكهربي بواسطة تخطيط كهربية الدماغ (EEG) ا(7) لدى متأملين خلال ممارستهم الذاتية التأمل المبني على الشفقة، حيث طرحوا وصفا محددا لمعنى الذات يفيد بأن الذات هي الحالة التي يصبح فيها المرء أقل جمودا وديمومة.

 

 

وقد وجدنا أن هؤلاء الممارسين البوذيين ذوي الخبرة الطويلة يستطيعون ترسيخ نموذج معين في تخطيط كهربية الدماغ. وهو نموذج يُدعى تحديدا تذبذبات وتزامن أطوار شريط گاما عالي السعة ما بين 25 و 42 هيرتز(8). وربما تكون عملية تنسيق تذبذبات الدماغ قادرة على تأدية دور قد يكون حاسما في بناء شبكات دماغية مؤقتة يمكنها أن تزاوج بين الوظائف المعرفية والوظائف الوجدانية أثناء التعلم والإدراك الواعي؛ وهي عملية بوسعها إحداث تغيرات دائمة في منظومة دارات الدماغ.

 

 

وقد كانت التذبذبات العالية السعة لا تدوم سوى عشرات ثوانٍ طوال فترة التأمل، ولكن مدتها كانت تزداد تدريجيا كلما تقدمت الممارسة. وقد كانت هذه الآثار الزهيدة المسجلة بمخطط كهربية الدماغ مختلفة عن نظيراتها لدى أفراد المجموعة الضابطة، وخصوصا في القشرة الجبهية الجدارية الجانبية. ومن المحتمل أن تكون التغيرات في النشاط الكهربائي انعاكسا لتنامي وعي المتأملين ذوي الخبرة بمحيطهم الخارجي وبعملياتهم الذهنية الداخلية، علما بأننا ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث كي نفهم الأداء الوظيفي لتذبذبات گاما gamma بصورة أفضل.

 

 

والتأمل لا يؤدي إلى تغيرات في طائفة محددة المعالم من العمليات المعرفية والانفعالية وحسب، وإنما أيضا إلى تبدلات في حجم بعض مناطق الدماغ. ومن المحتمل أن تكون هذه التغيرات انعكاسا لتبدلات في عدد الوصلات البينية لخلايا الدماغ. فقد أظهرت دراسة أولية أجرتها <W .S. لازار> [من جامعة هارڤارد] وزملاؤها، أن المتأملين ذوي الخبرة الطويلة، مقارنة بالمجموعة الضابطة، كانوا يتباينون فيما بينهم في حجم نسيج الدماغ الأغمق لونا (مادته السنجابية) في الجزيرة ومناطق القشرة قبل الجبهية، وعلى وجه التحديد في منطقتين تُدعيان باحتي برودمان 9 و 10(9) – وهما منطقتان كثيرا ما يتم تنشيطهما أثناء ممارسة التأمل بمختلف أصنافه. وقد كانت هذه الفروق أكثر وضوحا عند الأكبر سنا من المشاركين في الدراسة؛ مما يدل على أن التأمل ربما يمارس نفوذه على ترقق النسيج الدماغي الذي يأتي مع التقدم في السن.

 

 

إضافة إلى ذلك، فقد أظهرت <لازار> وزملاؤها في إحدى دراسات المتابعة أن تدريب اليقظة الذهنية يؤدي إلى انكماش في حجم اللوزة the amygdala، وهي إحدى المناطق المشاركة في معالجة الخوف، عند أولئك المشاركين الذين أبدوا طوال التدريب أكثر ما يلفت النظر من درجات انخفاض الكرب stress. إضافة إلى ذلك، فقد لاحظت <E. لودرز> [من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] وزملاؤها، أن المتأملين يتباينون فيما بينهم في عدد الألياف التي تُسمى المحاوير axons، والتي تربط مناطق الدماغ المختلفة بعضها ببعض؛ مما يدل على امتلاك بعضهم وصلات دماغية أشد كثافة. ومن شأن هذه المشاهدة أن تدعم الفرضية القائلة إن التأمل يُدخل تعديلات على بنية الدماغ فعليا. غير أن هذا البحث ظل يعاني ثغرات من أهمها افتقاره إلى دراسات طويلة الأجل تتم فيها متابعة إحدى المجموعات على مدى سنوات عدة، وغياب دراسات تقارن بين أشخاص يمارسون التأمل وآخرين لا يمارسونه، ولكنهم يماثلونهم في الخلفيات والأعمار.

 

 

وهناك حتى بعض الأدلة التي تشير إلى أن التأمل – ومن خلال قدرته على تعزيز العافية العامة أيضا – من شأنه التقليل من الالتهاب وغيره من حالات الإجهاد البيولوجية biological stress على المستوى الجزيئي. وقد أظهرت دراسة تشاركية بين مجموعتنا ومجموعة أخرى ترأسها <P. كاليمان> [من معهد البحوث الطبية البيولوجية في برشلونه] أن يوما واحدا من الممارسة المشددة لتدريب اليقظة الذهنية كفيل بإضعاف نشاط الجينات المرتبطة بالالتهاب، وكفيل أيضا بتبديل سير عمل الإنزيمات المشاركة في تشغيل بعض الجينات وإيقافها عن العمل لدى المتأملين ذوي الخبرة. وقد أجرى <C. سارون> [من جامعة كاليفورنيا في ديڤيز] دراسة استقصى فيها تأثير التأمل في جزيء يشارك في تنظيم طول عمر إحدى الخلايا. وكان هذا الجزيء المدروس إنزيما يدعى القسيم الطرفي (أو التيلوميراز) telomerase، وهو إنزيم يقوم بإطالة قِطَع من الدنا تقع في أطراف الكروموسومات. وهذه القطع التي تسمى القسيمات الطرفية تضمن استقرار المادة الجينية(10) أثناء انقسام الخلية. إذ إنها تقصّر زمن انقسام الخلية كلما قامت هذه بالانقسام، وعندما يتناقص هذا الزمن إلى ما دون عتبة حرجة معينة، فإن الخلية تتوقف عن الانقسام وتدخل تدريجيا في حالة من الشيخوخة. ومقارنة بالمجموعة الضابطة، كان المتأملون الذين أبدوا أكثر درجات الانخفاض في الإجهاد النفسي يبدون أيضا في نهاية فترة الاعتكاف درجة أعلى من نشاط التيلوميراز. ويشير هذا الكشف إلى أن تدريب اليقظة الذهنية ربما يكون قد أبطأ عمليات التشيخ الخلوي عند بعض الممارسين.

 

 

مسار إلى العافية

 

 

إن ما أُنجز من أبحاث في زهاء خمس عشرة سنة خلت، لم يكشف لنا فقط عن أن التأمل يُحدث تغييرات يُعتد بها في وظيفة وبنية أدمغة ممارسيه من ذوي الخبرة. فقد باتت هذه الدراسات تظهر لنا اليوم أيضا أن الممارسات التأملية قد يكون لها تأثير جوهري في عمليات بيولوجية حاسمة بالنسبة إلى الصحة البدنية.

 

 

ولكننا لا نزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات المبنية على تجارب واضحة المعالم وذات شواهد مختارة عشوائياrandomized controlled، وذلك لعزل الآثار المتعلقة بالتأمل عن غيرها من العوامل النفسية التي بوسعها أن تؤثر في نتائج الدراسة. وبالطبع هناك متغيرات أخرى قد تؤثر في نتائج الدراسة من بينها درجة الحافز التي يتمتع بها الممارس والأدوار التي يؤديها المعلمون والطلبة في مجموعة التأمل. كما أننا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث لفهم الآثار الجانبية السلبية المحتملة للتأمل واستعراف المدة الزمنية اللازمة لنوع معين من الجلسات وإيجاد السبيل إلى تكييف كل جلسة منها مع الاحتياجات الخاصة بصاحب هذه الجلسة.

 

ويمكننا القول أخيرا، حتى بالقدر الواجب من الحذر، إن البحث في التأمل يزودنا بتصورات جديدة عن طرائق التدريب العقلي التي بوسعها تعزيز صحة الإنسان وعافيته. وما يتمتع بالقدر نفسه من الأهمية، هو قدرة هذه الطرائق أيضا على تنمية مشاعر الشفقة وغيرها من الصفات الإنسانية الرفيعة، وقدرتها من خلال ذلك على تأسيس إطار قِيْمي، لا يرتبط بأي فلسفة أو دين، قد يكون له أثر عظيم الفائدة في المجتمعات البشرية بجميع نواحيها.

المؤلفون

       Matthieu Ricard – Antoine Lutz – Richard J. Davidson
<ريكارد> راهب بوذي تلقى تدريبا كبيولوجي خلوي(11) ثم هاجر من فرنسا إلى الهيمالايا لدراسة البوذية قبل نحو أربعين سنة.

 

<لوتز> باحث في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية، ويعمل أيضا في جامعة ويسكونسون-مادسون، ويُعد أحد أبرز الباحثين في مجال البيولوجيا العصبية للتأمل.

 

<داڤيدسون> مؤسس علم التأمل بصفته مديرا لمختبر وايزمان لتصوير الدماغ والسلوك ومديرا لمركز بحوث العقول السليمة في جامعة ويسكونسون-مادِسون.

  مراجع للاستزادة

 

Happiness: A Guide to Developing Life’s Most Important Skill. Matthieu Ricard. Little, Brown, 2006.

Mental Training Enhances Attentional Stability: Neural and Behavioral Evidence. Antoine Lutz et al. in Journal of Neuroscience. Vol. 29, No. 42, pages 13,418–13,427; October 21, 2009.

Mind Wandering and Attention during Focused Meditation: A Fine-Grained Temporal Analysis of Fluctuating Cognitive States. Wendy Hasenkamp et al. in NeuroImage, Vol. 59,

No. 1, pages 750–760; January 2, 2012.

 

(1) the Mind & Life Institute

(2) focused-attention

(3) the default-mode network؛ الشبكة المعيارية (DMN) في العلوم العصبية هي شبكة المناطق الدماغية التي تبقى نشطة عندما يكون الشخص في حالة ذهنية لا يركز فيها على العالم الخارجي ويكون دماغه في حالة من الراحة اليقظة. وتتميز هذه الشبكة، التي تُدعى أيضا بشبكة المهام السالبة، بأنها تطلق ذبذبات عصبية متواصلة بمعدل لا يتعدى 0.1 هيرتز (أي ذبذبة واحدة كل عشر ثوان) وبأنها تتوقف عن العمل خلال النشاط الذهني الهادف إلى حساب شبكة أخرى تُدعى بشبكة المهام الموجبة Task-positive network (TPN).

(4) أو: المجموعة الشاهدة؛ المجموعة المراقِبة

(5) spontaneously rumination

(6) cognitive therapy

(7) electroencephalography

(8) high-amplitude gamma-band oscillations and phase synchrony at between 25 and 42 hertz

(9) Brodmann areas 9 and 10

(10) the genetic material

(11) cellular biologist

Comments

comments