يتواصل العمل على تطوير ماكينات تستطيع نظريا وبسرعة معرفة
أي جرثوم أو ڤيروس أو فطريات، من أجل استخدامها في المستشفيات.
وربط هذه الأجهزة بشبكة واحدة يمكن أن يتيح للسلطات الصحية إنقاذ
الأرواح عن طريق تحديد مواقع تفشي الأمراض في وقت أبكر تماما من قبل.
<J .D. إيكر>
يتواصل العمل على تطوير محسات بيولوجية جديدة يمكنها تشخيص الأمراض المعدية التي تسببها الڤيروسات والجراثيم والفطريات وذلك باختبار العينات المأخوذة من المريض خلال بضع ساعات.
ويتلقى المرضى المعالجة الصحيحة بسرعة، ولا يصف الأطباء في غالب الأحيان المضادات الحيوية إلا عندما تكون ضرورية.
وربط عدد من قليل لا يتجاوز المئتين من هذه المحسات البيولوجية ببعضها البعض على شكل شبكة يمكن أن يقدم إلى الولايات المتحدة الأمريكية إنذارات مبكرة بحدوث أوبئة مستجدة أو هجمات إرهابية بيولوجية.
وأكبر العقبات التي تقف أمام إنشاء مثل هذه الشبكة هي تحديات في معظمها سياسية وتنظيمية، وليست تقنية.
في أحد الأيام بينما كنت أعبر مقبرة قديمة بالقرب من فيلادلفيا، انتبهت إلى سنوات الولادة والوفاة المحفورة على شواهد الأضرحة؛ فأثار انتباهي أن معظم الوفيات قبل أوائل القرن العشرين كانت تحدث قبل احتفالهم بعيد ميلادهم الخمسين. وكان السبب الأهم في معظم تلك الوفيات الإصابة بأمراض معدية، مثل الجدري والإنفلونزا والتهاب الرئة.
وفي الوقت الحاضر، قلّت الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية في الدول المتطورة، حيث أدى تحسن التغذية وتوافر خدمات الصرف الصحي(1) واللقاحات وإدخال المضادات الحيوية إلى القضاء الفعلي على الوفيات المبكرة الناجمة عن مثل هذه الأمراض. إلا أننا نقترب بصورة خطيرة من العودة إلى عهد كانت تحدث فيه الوفيات بسبب هذه الأمراض في أعمار مبكرة، ذلك لأن العديد من المتعضيات الميكروية(2) microorganisms أصبحت مقاومة لكثير من الأدوية المتوافرة، في حين لا تقوم الصناعات الدوائية بتطوير بدائل كافية عنها.
والإفراط في وصف الأطباء للمضادات الحيوية لمرضاهم هو أحد الأسباب المهمة لحدوث هذه المشكلة – مشكلة مقاومة المتعضيات الميكروية لكثير من الأدوية المضادة لها – وهو سبب يمكن تفهم حدوثه. فالوسائل التشخيصية الشائعة حاليا لا يمكنها أن تحدد بسرعة نوع الجرثوم المسبب للمرض من بين طيف واسع من الجراثيم التي تسبب الأمراض. والجراثيم هي المتعضيات(3) organisms الوحيدة التي تستجيب للمعالجة بالمضادات الحيوية antibiotics، وفي معظم الحالات، يتطلب تحديدُ ذرية الجرثوم المسبب للمرض اللجوءَ إلى الطرق القديمة في زرع الجراثيم، وهي طرق يستغرق إجراؤها عدة أيام. لذلك، ونظرا لأن من الثابت أن تأخير المعالجة قد يكون مميتا، فإن الكثير من الأطباء يحاولون تغطية جميع الاحتمالات الممكنة بوصف المضادات الحيوية القوية التي توصف بأنها واسعة الطيف والتي يمكنها أن تقضي على أنواع كثيرة من الجراثيم. ومع ذلك، يحدث في بعض الحالات أن تقتل هذه الأدوية الجراثيم التي تتأثر بها وتترك الجراثيم المقاومة لذلك الدواء دون تأثير. وفي هذه الحالة تتكاثر تلك الجراثيم المقاومة للدواء دون أن تتأثر بأي عائق كانت تفرضه الجراثيم المنافسة الأخرى، ويصبح في إمكانها أن تنتشر بصمت إلى أشخاص آخرين، إلى أن تجد الظروف المناسبة لإحداث المرض لديهم. وفي حين أن هذه الطريقة العلاجية – الإفراط في وصف الأطباء للمضادات الحيوية لمرضاهم – تساعد على الحفاظ على صحة العديد من الأفراد في الوقت الحاضر، إلا أنها تؤدي بلا ريب إلى ظهور عدد أكبر من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية في المستقبل.
وقد يتوافر العديد من الحلول لهذه المعضلة. إذ يتواصل في الوقت الحالي تطوير مِحَسَّات بيولوجية جزيئية(4)جديدة ستتيح للأطباء معرفة ما إذا كان أحد المرضى مصابا بعدوى سببها جرثومية أو نوع آخر من مسببات الإنتان، وعلى النوع المسبب للمرض. والميزة الأساسية لهذه الأجهزة هي أنها توفر الوقت اللازم للبحث عن جميع المُمرضات(5) pathogens تقريبا في لحظة واحدة بدلا من إجراء الاختبار تلو الآخر لكشف كل متعضٍ من المتعضيات الميكروية على حدة. ومن ثم، فإن الأطباء السريريين الذين يشكون في أن الجراثيم هي العامل المسبب للمرض لن يكون عليهم أن يخمنوا نوع الجرثوم الذي يحتمل أنه مسبب المرض؛ فالأبحاثُ، التي قمت بها في الشركةIbis Biosciences والتي هي الآن جزء من الشركة Abbott، توفر الأساسَ لإحدى تلك الأجهزة. ويتنافس المهندسون البيولوجيون في غيرها من الشركات لتطوير أجهزة مماثلة.
وأجهزة التشخيص السريع هذه في طريقها لتصبح متوافرة تجاريا في المستشفيات والعيادات في السنوات القليلة القادمة. ومع ذلك، فإننا بقليل من التروي والتخطيط نستطيع أن نزيد فوائدها إلى حد كبير، عن طريق ربطها ببعضها على شكل شبكة من الأجهزة التي تتوزع في شتى أرجاء البلاد، أو حتى في شتى أرجاء العالم، لتقدم إلينا، وللمرة الأولى، نظاما يتسم بأنه واسع القاعدة ويعمل في الوقت الحقيقي للإنذار المبكر(6) بفاشيات(7) الأمراض الجديدة والأمراض المنقولة بالأغذية(8) والجائحات العالمية(9)، وربما هجمات الإرهابيين البيولوجيين.
حان الوقت لترقية المستوى
تستند الطرق الحالية لتشخيص الأمراض المعدية إلى تقنيات الزرع(10) التي تعود إلى ما يزيد على مئة وخمسين عاما مضت، وإلى العالم <L. پاستور>، حيث يجمع الأطباء عينة من أنسجة المريض، أو الدم أو الغائط أو البول، على سبيل المثال، وينقلونها إلى قارورة زرع تحوي مستنبتا غنيا بالمغذيات، أو إلى طبق يحوي الآغار(11)، وهو خلاصة أعشاب بحرية شبيهة بالهلام؛ مما يتيح للممرضات النمو. وبعد يوم أو يومين من ذلك يتكاثر كل ميكروب وحده إلى درجة تسمح للتقنيين في المختبر بمعرفة هويتها، كما يسمح لهم بمعرفة ما إذا كانت تلك المزارع ستتضاءل ثم تموت عندما تستنبت بوجود أنواع مختلفة من الأدوية، ومن ثمّ ستكون لديهم فكرة عن مدى استجابة تلك الجراثيم للأدوية. وحتى لو كانت هذه الطريقة أقل استهلاكا للوقت، فإنها ليست مثالية من أجل اتخاذ القرارات المتعلقة بالمعالجة، لأن كثيرا من الممرضات قد يكون زرعها معقدا، مثل تلك التي تحتاج إلى أوساط زرع خاصة أو إلى بيئات خاصة حتى تنمو. وفي بعض الأحيان قد يكون من المستحيل زرع الجراثيم من المرضى الذين سبق لهم أن عولجوا بأحد المضادات الحيوية قبل أخذ العينة اللازمة للزرع.
لقد انصب اهتمامي في بادئ الأمر على تشخيص الأمراض المعدية ومتابعتها عندما كنت أعمل في «وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة»(12) باحثا عن طرق جديدة لاكتشاف المضادات الحيوية. وكان هدفنا أن ننقب في آلاف المركبات للعثور على عدد محدود منها يمكنه إعاقة عمل أنواع مختلفة من الجراثيم، وذلك عن طريق لصق قطعة نوعية من الرنا RNA، والرنا هو الجزيء الأساسي لقيام جميع الخلايا الحية بعملها، وتشترك الجراثيم بها فيما بينها.
فقد استعملتُ أنا وزملائي أجهزة تدعى مقاييس طيف الكتلة(13) من أجل تعيين ما إذا كانت الأدوية المحتملة قد ألصقت نفسها بالرنا الجرثومي(14). وما مقاييس طيف الكتلة بالأصل إلا مقاييس لوزن الجزيئات بدقة بالغة. (فهي بعبارة واضحة تقيس كتلة الجزيئات.) ولما كنا نعلم مسبقا وزن رنا الجرثوم الذي هو موضوع البحث، كان بإمكاننا أن نستنتج وزن أي مركَّب التصق به بالطريقة نفسها التي يستطيع بها أحدنا معرفة وزن كلبه، بحمله أثناء وقوفه على ميزان الحمام ومن ثم طرح وزنه الشخصي المعروف مسبقا من الرقم الإجمالي الذي يكشفه الميزان. وإن معرفة وزن المركب تدلنا على هويته لأن كل مركب له كتلته الفريدة الخاصة به.
وسرعان ما تحققنا من أن هذه التقانة ذاتها تسمح لنا بالتمييز بين الجراثيم والڤيروسات والفطريات والطفيليات عن طريق وزن رنا RNA ودنا DNA هذه المتعضيات الميكروية، والرنا والدنا نمطان من الحمض النووي(15) وثيقا الصلة ببعضهما. ويتألف كل طاق(16) من جزيئات الرنا والدنا من وحدات فرعية تدعى نوكليوتيدات(17)، كثيرا ما يشار إليها بالأحرف التي تميز القسم الذي يحتوي على النتروجين منها، فيشار بحرف A إلى الأدنين، وبحرف Cإلى السيتوزين، وبحرف G إلى الغوانين، كما يشار بحرف U إلى اليوراسيل في حالة الرنا، أو بحرف T إلى الثيمين في حالة الدنا. ومن الوجهة العملية، فإن بعض أجزاء هذه الحموض النووية تكون فريدة لدى ممرضات مختلفة. ونظرا لكون الوزن الجزيئي لهذه الأنواع المختلفة من النوكليوتيدات (A ، T، C ، G ، U) يختلف اختلافا ملحوظا من نوع إلى آخر، فإن بإمكاننا تحديد عدد النوكليوتيدات الموجودة في طاق معين بالاعتماد فقط على كتلته المقدرة بمقياس طيف الكتلة. ومثال ذلك، أن أي طاق من الدنا يزن 38765.05 دالتون(18) (الدالتون هو الوحدة القياسية المعتادة في القياسات الذرية) كما يبينه مقياس طيف الكتلة، يجب أن يحوي عددا من الوحدات الفرعية هو 43 من الأدنين و 28 من الغوانين و 19 من السيتوزين و 35 من الثيمين؛ فهذه التوليفة(19) هي التوليفة الوحيدة التي تعطي بدقة تلك النتيجة دون الحاجة إلى استعمال أجزاء أو كسور من أوزان النوكليوتيدات، وهو ما لا يوجد في الطبيعة. وهذه المعلومات بدورها تدل على نوع المتعضي الميكروي الحي الموجود.
إن هذه الطريقة تماثل الطريقة التي يمكن أن تَستخدِمها لحساب عدد قطع النقود المعدنية غير المغشوشة والموجودة في مرطبان jar لا يحتوي إلا على قطع من فئة ربع الدولار (التي تزن كل قطعة منها 5.670 غرام) وعلى قطع من فئة خمسة سنتات (التي تزن كل قطعة منها 5.00 غرام). فإذا كان وزن مجموع النقود 64.69 غرام، وجب أن يحتوي المرطبان على سبع قطع من فئة ربع الدولار وعلى خمس قطع من فئة خمسة سنتات، بينما يتطلب أي رقم آخر من عدد القطع من فئة ربع الدولار وجود كسور من القطع من فئة خمسة سنتات.
إن عملية التعرف على المُمْرضات(20) تتطلب القدرة على تمييز الرنا أو الدنا الخاصة بالكائنات المتهمة بإحداث المرض، وتمييزها من الرنا أو الدنا الخاصة بالمريض والموجودة في العينة المفحوصة. وكمية المواد الغريبة الموجودة في العينة ضئيلة جدا لدرجة لا تسمح بإجراء قياسات مفيدة إلا إذا حصلنا على نسخ إضافية منها. وبدلا من الانتظار حتى يتمكن المزيد من الميكروبات من النمو في المزرعة، فإننا نستعمل تقنية تفاعل البوليمزار السلسلي(21) (التي يرمز إليها ب PCR المشتق من عمل الإنزيمات على تكثير الحموض النووية) لاصطناع نسخ أخرى من الدنا والرنا الموجودة في العينة المأخوذة من المريض. وقد استخدمت التقنية PCR منذ زمن طويل لكشف الممرضات، لكن استخدامها قد اقتصر لوقت طويل على كشف أحد الممرضات أو عدد قليل منها في وقت واحد. وقد قررت أنا وزملائي استخدام التقنية PCR بطريقة نضيف إليها استخدام مقياس طيف الكتلة لنتمكن من كشف مجموعات واسعة الطيف من المتعضيات في آن واحد.
إن العنصر الأساسي في هذه العملية هو تقليل كمية الحمض النووي الذي علينا أن ننتجه إلى أقل قدر ممكن كي نحصل على نتائج حاسمة. وقد حققنا هذا الهدف ببذل مزيد من الدقة في اختيار قطع الدنا أو الرنا التي نضخمها. لذلك كنا نتأكد من اختيار القطع أو الشدف(22) التي تتماثل أو تم حفظها لدى مجموعات واسعة من المتعضيات من حيث احتوائها على متواليات الأحرف، مثل جميع المتعضيات التي يمكن أن تتلون بما يسمى ملوِّن غرام(23) مقارنة بالأنواع التي لا تتلون بهذا الملون، وأن تلك الشدف تقع بجوار مناطق تتفرد بوجودها ضمن أنواع معينة من الجراثيم مثل المكورات العنقودية المذهبة(24). إن استهداف عدة متواليات اختيرت بعناية يسمح لنا بالتعرف على أصناف رئيسية أو أصناف فرعية من المتعضيات دون إطالة لا مبرر لها لوقت إجراء العملية. وهكذا، فبعد استخلاص رنا أو دنا المتعضيات الميكروية، أضفنا إلى العينة البادئات(25)، وهي قطع قصيرة من الدنا تحاكي في عملها الآليةَ الطبيعية في الخلايا الحية للشروع في عملية نسخ النوكليوتيدات، بحيث يصبح بإمكان البادئات اختيار القطع التي يراد لها الخضوع للمزيد من المعالجة. وبعد إتمام هذه العملية نقيس القطع بواسطة منظار طيف الكتلة، ونحصل من القياس على سلاسل متمايزة من الأعداد التي يمكننا أن نقارنها بقاعدة البيانات الرئيسية التي جمعناها من أكثر من ألف متعضٍ من المتعضيات الميكروية التي تعرف بأنها تسبب الأمراض عند الإنسان.
[كيف تعمل]المحسات البيولوجية الفوريةيتواصل العمل على تطوير أجهزة معقدة تستخدم فيها مجموعة من الوسائل البيولوجية والفيزيائية والرياضياتية (المعروضة أدناه) بإمكانها تعيين هوية أي مُمرض من بين ما يزيد على ألف من تلك الممرضات عند الإنسان. ويمكن لشبكة من هذه المحسات الموزعة في أرجاء أحد البلدان أو الأقاليم أن توفر إنذارات مبكرة عن حدوث فاشيات الأمراض أو الهجمات البيولوجية، كما أنها تحدد أكثر الأدوية فعالية. (1) الخطوة 1 (2) الخطوة 2 (3) الخطوة 3 (4) الخطوة 4 |
ويشكل كل من العتاد الإلكتروني(28) والبرمجيات(29) أداة للكشف الشامل عن الممرضات، ويمكنها التعرف على المتعضيات المسؤولة عن مرض أحد الأشخاص، مع التعرف على الخصائص الفريدة لها خلال بضع ساعات فقط.
رسم الخرائط لتحديد مواقع حالات الكوليرا (التظليل بالأسود) إن رسم الخرائط لتحديد مواقع حالات الكوليرا قد أوصل الطبيب <J. سنو> في لندن عام 1854 إلى معرفة مصدر فاشية الكوليرا، وهو مضخة عامة توزع الماء الملوث بالبراز (علامات حمراء إضافية). ويتم رسم خرائط مماثلة في الوقت الحاضر من أجل تحديد دقيق لمصدر فاشيات الأمراض وهجمات الإرهاب البيولوجي. ويقترح الكاتب إنشاء شبكة من المحسات التي ستكشف الممرضات يمكن أن تحدد مصادر الفاشيات بسهولة وسرعة أكبر مما هو شائع في الوقت الحاضر. |
وفي عام 2009 وضع النموذج الأولي(30) لهذه الآلة التي أسهمت في ابتكارها قيد الاختبار في ظروف واقعية، عندما ظهرت أعراض شبيهة بالإنفلونزا على طفلة في التاسعة من عمرها وعلى صبي في العاشرة من عمره، يقيمان في مكانين مختلفين بجنوب كاليفورنيا. وأخذ الأطباء السريريون مسحات من الحلق من هذين الطفلين وأجروا على هذه العينات اختبارات التحري السريع المعيارية لكشف ڤيروس الإنفلونزا. وبينت نتائج هذه الاختبارات أن ڤيروس الإنفلونزا هو المسؤول عن المرض لدى هذين الطفلين، بيد أنه لم يكن بالإمكان التعرف على الذريتين الڤيروسيتين المسؤولتين عن مرضهما من بين الذراري الڤيروسية التي كانت معروفة آنذاك.
أرسلت العينات إلى المركز القريب للأبحاث الطبية في البحرية الأمريكية(31) بمدينة سان دييگو، وهو المركز الذي كان يجري العديد من الاختبارات على النموذج الأولي لذلك الجهاز. وقد تعرف الجهاز – على نحو صحيح – على أن كلا الطفلين مصاب بالعدوى بالذرية ذاتها من الڤيروس، والتي لم تشاهد قط من قبل. كما حدد الجهاز بدقة أن المنشأ الحالي للڤيروس كان في الخنازير، لأن تعداد حروف دنا هذا الڤيروس يُطابق إلى حد بعيد حروف ڤيروس الإنفلونزا عند الخنازير، والتي هي في قاعدة البيانات. إضافة إلى ذلك، فقد قام مقياس طيف الكتلة بتعداد الأحرف أو البصمة في هاتين الحالتين الأوليين وحدد أن هناك تطابقا مع ما بينته العينات التي أخذت في وقت لاحق على الڤيروس الذي أطلق عليه في حينه اسم ڤيروس إنفلونزا الخنازير، والذي يعرف حاليا باسم ڤيروس الإنفلونزا الجائحة (HINI) ا2009. وفي حين أنه لا يستطيع أحد القول إن التحذير المبكر أنقذ حياة بعض الأشخاص، إلا أنه بكل تأكيد لم يسبب الأذى لأي شخص، وإن استعمال هذه التقانة بشكل روتيني، وهي التقانة التي تصف إحدى ذراري الڤيروس بأنها ذرية جديدة وفريدة، أمر سيكون من دون شك بالغ الأهمية في معرفة فاشيات جديدة.
ولا تَقِّل أهمية الحصول على هذه المعرفة بڤيروس الإنفلونزا الجديد عام 2009 عن أهمية ما هو متوقع من أن تقوم أجهزة كشف الممرضات بتقديم إيضاحات حقيقية للحالات التي يفتقد فيها الأطباء السريريون أي دليل يرشدهم إلى سبب إصابة مرضاهم بالمرض. كما يمكن لهذه الأجهزة أن تساعد على اختيار الأدوية، إذ إن من الجدير بالذكر أن مقياس طيف الكتلة الذي يكشف سمات ذرية أحد الجراثيم، هو نفسه الذي يقدم الأدلة للتعرف على استجابة الجرثوم لمختلف المضادات الحيوية؛ مما يتيح للأطباء وصف الأدوية الصحيحة للمرض فورا، وعندما تمس الحاجة إليها فقط. وهكذا، سيستفيد المرضى من تقصير مدة التعافي، حتى ولو كانت الذراري الجرثومية مقاومة لمضادات الجراثيم، لأن المرضى يتلقون المعالجة الأفضل بأسرع وقت ممكن.
بَعْد التعامل الفردي مع المرضى
بالانتقال من الفوائد التي تعود على الأفراد إلى الفوائد التي تعود على المجتمعات، فإن الأطباء السريريين سيكونون قادرين على معرفة ما إذا كان عدد من المرضى القاطنين في منطقة واحدة قد أصابتهم عدوى بالميكروب نفسه، مثل السالمونيلة (32) التي هي سبب شائع للإصابة بالتسمم الغذائي. فقد تتوقع أنه ما أن يتلقى القائمون بالتقصيات في السلطات الصحية الأنباء عن حدوث مثل هذه الحالات حتى يجروا تقصيات وبائية ميدانية قديمة الطراز، بإجراء المقابلات مع المرضى، وتتبع تحركاتهم الأخيرة من أجل معرفة ما إذا كان المرضى يشتركون جميعا في بعض الأمور، مثل تلقيهم الخدمة من الطاهي نفسه في مطعم معين، أو تناول المكونات نفسها في السلطات. وعند ذلك، فإن استكمال الحصول على نتائج هذه الاستقصاءات، والتي تتبع الشكل نفسه الذي وصفه <J. سنو> عام 1854 لاقتفاء سبب وباء الكوليرا في لندن، والذي قاده إلى معرفة أن السبب هو مضخة المياه المشتركة، قد يتطلب أسابيع أو شهوراً، ولعل ذلك ما يفسر سبب عدم إجراء التقصيات وتقديم الحلول إلا في الفاشيات الأكثر خطورة.
ومع ذلك، فإن هناك طريقة أفضل، وقد يكون السبيل الرئيسي لإنجازها في جيبك أو في محفظتك، إذ يحمل معظم الأشخاص في الوقت الحاضر هاتفا محمولا يوصل المعلومات عن المواقع الأرضية(33) كجزء من البرمجيات المستعملة في التطبيقات الإضافية. ومن ثم، فإن شركات تقديم الخدمات لتلك الهواتف تجمع كل أنواع المعلومات المأخوذة من أبراج الهواتف الخلوية التي يمكنها أن تحدد مكان وجود الأشخاص في أي وقت من الأوقات. فإذا تطوع المرضى المصابون بالعدوى بأحد الميكروبات ذات الأهمية في الصحة العامة بالكشف عن تفاصيل تنقلاتهم الأخيرة عن طريق الهاتف الخلوي، فإنه يصبح باستطاعة الاختصاصيين في علم الوبائيات تحديد ما إذا كان أشخاص متعددون من المصابين بالميكروب نفسه قد زاروا المكان نفسه خلال مدة معينة من الزمن.
إن حق الخصوصية الذي ينبغي احترامه في التقصيات التي تُجرى في الوقت الحالي يجب أن يكون مضمونا أيضا في التقصيات التي تستند على الهواتف الخلوية أو الجوالة. والفارق الرئيسي بين هاتين الطريقتين من التقصيات هو أن الإجابات تأتي بسرعة أكبر في الطريقة الثانية. فمع تنسيق المعلومات على الوجه الملائم، فإن فائدة البيانات التي نحصل عليها من شبكة جيدة التصميم من أجهزة الكشف الشامل للممرضات ستتجاوز المعرفة الأساسية والفورية للتهديدات التي تواجه الصحة العامة مثل فاشيات الأوبئة أو هجمات الإرهاب البيولوجي أو تلوث الإمدادات الغذائية الذي يحتمل أن يكون مهددا للحياة. ويضاف إلى ذلك أنه سيكون بإمكان خبراء الصحة العامة أن يعرفوا فورا المكان الذي قد تكون العدوى قد نشأت فيه، وما إذا كانت العدوى قد تم احتواؤها(34) في مدينة واحدة أم أنها انتشرت إلى عدة مدن. ويمكن إبلاغ النتائج بسرعة وحسب الاقتضاء إما إلى كل مريض على حدة أو إلى السلطات الصحية، كما يمكن للأطباء أن يسرّعوا وتيرة تبادل المعلومات حول المعالجات الفعالة.
إن بناء مثل هذه الشبكة، التي أدعوها «شبكة الإنذار بالمخاطر»(35) سيكون بمثابة نقلة مباشرة في نهاية المطاف لعلوم تشخيص الأمراض والوبائيات من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين.
ما مدى كبر الشبكة؟
نظرا لإمكان تمثيل انتشار العدوى بالشبكة الاجتماعية، فإننا نستطيع أن نحدد حسابيا عدد أجهزة الكشف عن الممرضات التي يجب ربط بعضها ببعض كي يتمكن المشروع من أن يعمل كمنظومة فعالة للإنذار المبكر في جميع أرجاء البلد أو الإقليم. ومن أسهل الطرق لحل هذه المشكلة استخدام نموذج حسابي يسمى محاكاة مونت كارلو(36)، وفيه يقوم الحاسوب بتشغيل سيناريو واحد تحت ظروف متعددة ليحدد مجموعة من النتائج المحتملة. (وتستخدم الشركات الاستثمارية باستمرار حسابات مماثلة لتقدير حجم مدخرات أحد الأشخاص عند التقاعد، وذلك في ضوء ظروف محتملة ومتعددة في السوق.) وبعد اطلاعي على المعلومات الوبائية حول معدل حدوث العدوى، وكيف وأين يطلب المرضى الذين تظهر عليهم أعراضُ العدوى المعونةَ الطبية، ومدى تكرار طلب الاختبارات التشخيصية، والفترات التي تستغرقها حضانة عدد واسع من الميكروبات، استخدمتُ هذه المعلومات آلاف المرات لتحديد مدى كِبَر الشبكة الذي تبدأ عنده بإعطاء إنذار مبكر عن حدوث فاشية تعم البلاد ناجمة عن متعضٍ له أهميته في الصحة العامة.
لقد كانت النتائج لافتة للنظر. إذ إن ربط مئتي مستشفى اختيرت بعناية من جميع أرجاء البلاد بالشبكة كان كافيا لتغطية جميع سكان المدن في الولايات المتحدة. وسوف تحتاج كل منطقة حضرية بحجم مدينة واشنطن أو سان دييگو إلى نحو خمسة مستشفيات مزودة بمحسات بيولوجية شاملة على الشبكة، وسيكون من المحتمل كشف العامل المسبب للعدوى الذي له أهميته في الصحة العامة فورا في 95% من الحالات، مثل العامل المسبب لإنفلونزا الطيور أو للجمرة الخبيثة أو للطاعون أو أي مُمْرضٍ منقول بالغذاء، وذلك إذا التمس سبعة مرضى فقط الرعاية في أحد أقسام الإسعاف.
والعدد القليل غير المتوقع من الأجهزة المرتبطة بالشبكة أو ما يسمى العقد(37) يعمل وفق ظاهرة أُشير إليها باسم «مفعول القِمع»(38). إذ يلزم معظم المرضى بيوتهم حيث يُداوون أنفسهم، إلا أن المرضى الأشد إصابة يسعون إلى مراجعة المستشفى (القِمْع الأول)، حيث يحدد الأطباء المتدربون (القمع الثاني) المرضى الذين يحتاجون إلى إجراء الاختبارات عليهم. وبعبارة أخرى، لا يتعين علينا وضع المحسات البيولوجية في المناطق التي يعيش فيها الناس، فذلك أمر يتطلب المزيد من أعدادها، إذ يكفي أن نضعها في المناطق التي يذهب إليها الأشخاص «المقصودون»، أو الأشخاص الذين يذهبون بأنفسهم «ليمروا عبر الأَقْماع» للوصول إلى حيث توجد المحسات البيولوجية.
وعندما أجريت محاكاة حاسوبية(39) للأمراض المعدية الأكثر شيوعا التي لها أهميتها في الصحة العامة وقارنت أداء شبكة الإنذار بالمخاطر من حيث التعرف على الفاشيات الجديدة، تبين لي أن أداء شبكة الإنذار بالمخاطر كان أفضل كثيرا من أداء أفضل النظم الشائعة في الوقت الحاضر. فقد تعرفت شبكة الإنذار بالمخاطر على الحدِّ المتقدِّم لحدوث الفاشية قبل النظم الشائعة حاليا بعدة أيام أو أسابيع. وفي السياق الواقعي والعملي تعتبر ملاحظة خطر حدوث الفاشية قبل عدة أيام من وقوعها بمثابة الفرق بين الحياة والموت بالنسبة إلى آلاف الأشخاص، إذ إن المستشفيات تتهيأ لاستقبال تدفقات المرضى، والسلطات الصحية تفرج عن كمية كبيرة من مخزوناتها من الأدوية أو يحدد العاملون في التقصي مصدرَ الهجمة الوخيمة.
وماذا بعد؟
لقد دلت حساباتي على أن إنشاء شبكة تضم مئتي مستشفى سوف تكلف أربعين مليون دولار (على فرض أن المستشفيات ستشتري محسات بيولوجية خاصة بها) إضافة إلى خمسة عشر مليون دولار سنويا لصيانة الشبكة. وفي المقابل، بينت دارسة أجريت عام 2012 وتناولت أربعة عشر مرضا من أشد الأمراض المنقولة بالغذاء انتشارا أن تقديرات تكاليف معالجة هذه الحالات وما يترتب عنها من التعطل عن العمل تصل إلى أربعة عشر بليون دولار في السنة. وقد يكون من الأحرى في الولايات المتحدة أن تقوم مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بتشغيل هذه الشبكة لما لها من خبرة في هذا المجال، فمهمتها هي التصدي للفاشيات.
لم يسبق لأحد من قبل أن طور نظاما للتَّرصد الوبائي(40) على درجة من التعقيد تماثل شبكة الإنذار بالمخاطر. وفي ضوء الخبرات السابقة، وعلى الأرجح، سيكون تصميم الحواسيب والبرمجيات هو الجزء الأسهل في هذا السياق. كما ينبغي معالجة العديد من المشكلات التنظيمية والقانونية ومشكلات الأطراف ذات النفوذ. إلا أن أهم العقبات هي أنه لا يوجد طرف مساهم وحيد في المشروع لديه التفويض(41) اللازم أو لديه الحافز أو الذي تتاح له الفرصة للقيام بهذه المهمة الشاقة، مع أن المشروع يخدم جميع الناس في العالم. وقد يكون من الصعب الوصول إلى المستوى اللازم من التعاون لتنفيذ المشروع، وهو المستوى الذي يسهم فيه الأطباء والممرضات والإداريون في المستشفيات والاختصاصيون بالصحة العامة والمدافعون عن الحفاظ على الخصوصية، ولاسيما في البلدان التي تكون الرعاية الصحية فيها ذات أنظمة لامركزية وإدارات يغلب عليها القطاع الخاص.
فمقاربة مجتمعية واسعة ومتكاملة لتشخيص الأمراض المعدية ستكون أكثر فاعلية وأقل تكلفة إلى حد كبير من المقاربة الحالية لمواجهة مشكلات الصحة العامة وكشف العوامل المسببة للجائحات(42) والتهديدات بالمخاطر البيولوجية. وإن إلقاء عبء الترصد في الوقت الحقيقي(43) لقضايا الصحة العامة على عاتق الجيل القادم من التقانات التشخيصية، بالمشاركة مع شبكة حديثة وتقانة اتصال، هي فكرة لديها إمكانات ضخمة لتحسين رعاية المرضى إلى حد كبير، وتوفير استهلاك المضادات الحيوية، وتأمين الإنذارات بالمخاطر، وهي إمكانات يمكن معها احتواء الفاشيات وهجمات الإرهاب البيولوجي في مرحلة أبكر كثيراً. ويبقى علينا النظر فيما إذا كنا على درجة من الوعي لتوحيد جهودنا من أجل تطوير نظام ترصد صحي أكثر ذكاء.
المؤلف
David J. Ecker |
|
<إيكر>، عالم ومبتكر في الشركة Ibis Biosciences التي هي جزء من الشركة Abbott. |
مراجع للاستزادة
Ibis T5000: A Universal Biosensor Approach for Microbiology. David J. Eckeret al. in Nature
Reviews Microbiology, Vol. 6, pages 553–558; July 2008.
Comprehensive Biothreat Cluster Identification by PCR/Electrospray-Ionization Mass
Spectrometry. Rangarajan Sampath et al. in PLOS ONE, Vol. 7, No. 6, Article No. e36528; June 29, 2012.
“Salvage Microbiology”: Detection of Bacteria Directly from Clinical Specimens following
Initiation of Antimicrobial Treatment. John J. Farrell et al. in PLOS ONE, Vol. 8, No. 6, Article No. e66349; June 25, 2013.
(1) sanitation؛ أو: الإصحاح
(2) أو: الكائنات الدقيقة
(3) أو: الكائنات
(4) molecular biosensors
(5) أو: العوامل المسببة للمرض.
(6) real-time early warning system
(7) outbreaks
(8) foodborne illnesses
(9) global pandemics
(10) culture techniques
(11) agar
(12) the Defense Advanced Research Projects Agency
(13) mass spectrometers
(14) the bacterial RNA
(15) nucleic acid
(16) strand
(17) nucleotides
(18) dalton
(19) combination
(20) أو: الكائنات المسببة للمرض
(21) polymerase chain reaction
(22) fragments
(23) Gram stain
(24) Staphylococcus aureus
(25) primers
(26) snippets
(27) mass spectrometer
(28) hardware
(29) software
(30) prototype
(31) the nearby Naval Health Research Center
(32) Salmonella
(33) geolocation
(34) contained
(35) ”Threat Net“
(36) Monte Carlo simulation
(37) nodes
(38) t“the funnel effect” phenomenon؛ ظاهرة «مفعول القِمع»؛ قِمع ”funnel“ وجمعها أقماع.
(39) computer simulation
(40) epidemiological surveillance
(41) mandate
(42) pandemics
(43) real-time