تتكرر الدروس الحياتية بشكلٍ مؤلمٍ وقاسٍ، وربما غير مجاني في الكثير من الأحيان. في ذات الإطار يتباين الناس في ردود أفعالهم عندما يتعرضون لصدمةٍ من أي نوعٍ كان؛ فهناك من يصابُ بالهلاوس، وهناك من يصاب بنزيفٍ حادٍ في أسراره المهنية والشخصية، وهناك من يلوذ بالصمتِ كالشيخِ عزاه عن قتلِ ابنهِ الخَرَفُ، وفي كل هذه الأحوال تجد متلصصين وانتهازيين يتنمرون ولا يرحمون.
وقبل الشروع في تفاصيل قصتنا، اسمح لي –صديقي القارئ- أن نتجول على جناح السرعة في سياقٍ متصلٍ بأحداث القصة التي ستقفُ على مشاهدها تفصيليًّا بعد قليل. التجول الذي أرمي إليه من نوع التجول القوي الإقناع؛ إنه تجول لغة الأرقام. والمينوكسيديل –لمن لم يعرفه- محلول موضعي يستخدم حاليًا لعلاج تساقط الشعر بتركيزين مختلفين، ولكلٍّ منهما استعمال: الأول بتركيز 2.0% للسيدات، والثاني بتركيز 5.0% للرجال.
وفقًا لموقع American Family Physician، فإن إجمالي ما يُنفَق في مجال إنبات الشعر المتساقط سواءً أكان التساقط وراثيًّا أو عرضيًّا يصل إلى 900 مليون دولار سنويًّا، المبيعات السنوية للمينوكسيديل 2.0% تربو على 162 مليون دولار أمريكي منذ عام 1996، وفي عام 2015، بلغ حجم الاستثمار العالمي في مستحضرات تساقط الشعر زهاء 7.2 بليون دولار مع توقعات بأن يتخطى حجم مبيعات المنتجات المتاحة بدون وصفة طبية OTC ما يزيد على 1.2 بليون دولار. في أمريكا وحدها يعاني 50 مليون رجل بالإضافة إلى 20 مليون سيدة من مشكلة تساقط الشعر، أما في الصين فإن 8% من السيدات جنبًا إلى جنب مع 21% من الرجال يقعون في دائرة تساقط الشعر الناجم عن التغيرات الهرمونية. كل هذه الأرقام تجعلنا فاغري الأفواه حيال المستحضر العجيب الذي يبدو للكثيرين منا في ثوبٍ قشيب، كأنه الملاذ الأخير للحفاظ على ما تبقى في الرأس من الشعر.
المينوكسيديل، هذا المستحضر الذي نستشف من قصته العديد من المعاني في شتى مشاهد يومنا دون أدنى مبالغة. القصة تبدأ من كالامازو بولاية ميتشجن عام 1886؛ حيث أسس الطبيب ويليام آبجون William Upjohn شركة طبية صغيرة، وكانت باكورة إنتاج الشركة حبيبات هشة سهلة المضغ للمساعدة على الهضم. وبمرور الوقت توسعت الشركة واندمجت مع شركة فارماسيا تحت اسم فارماسيا- آبجون عام 1995، وفي عام 1999 انضوى تحت لواء فارماسيا- آبجون شركة مونسانتو، والتي نكصت على عقبيها، وآثرت الانسحاب من هذا التحالف عام 2000. قامت فارماسيا- آبجون ببيع بعض علاماتها التجارية المسجلة لصالح بعض الشركات الكبرى، ومن بينها جونسون آن جونسون، والتي ابتاعت مستحضرات مثل موترين Moterin وكورتيد Cortaid وغيرها، وبالأخير استحوذت فايزر على فارماسيا- آبجون عام 2003.
خلال عقد الأربعينيات من القرن الماضي كانت آبجون تتوسع بخطى ثابتة، وتوصلت الشركة لابتكار مادة كيميائية أُطلِقَ عليها مينوكسيديل في الخمسينيات، وكان الهدف من ابتكار المينوكسيديل توظيفه لعلاج التقرحات. بدأت التجارب الأولية على الكلاب، وفشل المينوكسيديل فشلاً ذريعًا في علاج التقرحات. لم ينجح المينوكسيديل في المهمة الموكلة إليه ولكنه أبدى براعته كموسع للأوعية الدموية! استرعت قدرة المينوكسيديل على توسيع الأوعية الدموية أنظار فريق البحث، وهرولوا إلى تخليق 200 مركب مختلف من المينوكسيديل، ومن بينها النوع الذي تم تسويقه عام 1963 باسم مينوكسيديل 63.
نال مينوكسيديل 63 موافقة منظمة الغذاء والدواء الأمريكية FDA للاستخدام عن طريق الفم كعلاج لارتفاع ضغط الدم تحت الاسم التجاري Loniten، وذلك مطلع عام 1979. وحصلت آبجون على تصريح من FDA لإجراء المزيد من الدراسات حول فعالية العقار الجديد في علاج ارتفاع ضغط الدم. قامت آبجون بإسناد مهمة تنفيذ الأبحاث الجديدة للطبيب شارليز شيدسي Charles A. Chidsey الأستاذ المساعد بكلية طب جامعة كولورادو، وعلى الفور استهل شيدسي دراسته بإجراء نموذجين مغايرين من الأبحاث. النموذج الأول كانت نتائجه تسير بشكل طبيعي، في حين أن النموذج الثاني كان يحمل العديد من المفاجآت. لاحظ شيدسي أن النموذج الثاني من أبحاثه على العقار نجم عنه نمو شعر غير متوقع؛ صُعِقَ شيدسي لهذه النتيجة، ومن فرط صدمته لم يتمالك نفسه واقتادته خطاه إلى جونتر كان Gaunter Kahn، وأفرغ ما في جعبته من أسرار الشركة التي يعمل لديها، وأسهب في سرد تفاصيل الأبحاث التي قام بها، واقترح على جونتر أن يقوما معًا بتوسيع رقعة البحث، ومحاولة الاستفادة من هذا الاكتشاف المذهل.
لم يكن جونتر بنفس سذاجة شيدسي، بل كان رابط الجأش استمع إلى ما قاله الأخرق شيدسي، ثم قرر من فوره أن يبدأ الأبحاث دون اللجوء إلى خدمات شيدسي. ساق جرانت الأحداث لوجهةٍ مغايرة، إذ استدعى زميله وصديقه المقرّب بول جرانت Paul Grant وحصلا على عينة من مادة المينوكسيديل، وقاما بإجراء التجارب في عزلة تامة عن شيدسي وآبجون. قاما «كان- جرانت» بتجربة تحضير ملحول كحولي من المينوكسيديل بتركيز 1.0% من خلال تخفيف المينوكسيديل بأنواع مختلفة من الكحولات، مع إضافة البروبيلين جليكول، كمادة مساعدة على الاختراق. وبعد محاولات مستميتة للتوصل لنتيجة، وبعد صراعٍ شرس مع عقارب الساعة، وصلا إلى نتيجة مرضية، قاما على إثرها بقرعِ أبواب مكتب براءات اختراع ميتشجن لتسجيل المحلول الجديد باسمهما ليحوذا قصب السبق في مضمار المينوكسيديل قبل آبجون وشيدسي؛ لكن القدر فرض كلمته فقد كانت آبجون قد اجتازت هذه المرحلة، وهو ما وضعَ «كان- جرانت» في حيص بيص، فلم يخطر ببالهما أن تتوصل آبجون لنتيجة منجزة، لا سيما مع شكاوى شيدسي التي لا تتوقف.
لم ييأس كان وصديقه من إفلات الأمور من يديهما وثابرا ليحظيا بأكبر نصيبٍ ممكنٍ من المائدة، فنقلا رحى الحرب إلى ساحات المحاكم مع الاستعانة بالأبواق الإعلامية للضغط على آبجون. تحقق بالأخير الغرض الذي رسمه الشخصان الانتهازيان، وذلك أن إدارة آبجون استدعتهما في نهاية 1986، وتم التفاوض بين الطرفين على أن يُدرج «كان- جرانت» ضمن فريق أبحاث ابتكار محلول المينوكسيديل الموضعي لعلاج تساقط الشعر، ويصبحا شريكين في نسبة من الأرباح السنوية التي تحققها آبجون.
خلال هذه الآونة اكتسب المينوكسيديل صيتًا مترامي الأبعاد، الأمر الذي حدا بالأطباء أن يكتبوا أقراص لونيتين (أقراص المينوكسيديل المستخدمة لعلاج ضغط الدم) كأحد علاجات تساقط الشعر، وذلك بشكلٍ غير رسمي. وبحلول 18 أغسطس 1988، أقرت منظمة FDA استعمال المينوكسيديل الموضعي لعلاج الصلع لدى الرجال تحت اسم Rogain بعد رفض المنظمة للاسم المقترح من آبجون Regain، وذكرت المنظمة في حيثيات رفضها للاسم الذي أدلت به آبجون «أن الاسم يحمل في طياته نوعًا من التضليل، إذ إن العقار لن يكون موائمًا لكل المرضى». كانت الدراسات الميدانية قد أكدت ظهور تحسن ملموس لدى 39% من الرجال الذين يعانون من صلع منطقة تاج الرأس، وهي نتائج جيدة في ذلك التوقيت. بحلول عام 1990 أنتجت آبجون مسنوكسيديل بتركيز 2.0% للسيدات، وفي 12 فبراير 1996 حظي المينوكسيديل بموافقة FDA لإتاحته للجمهور بدون وصفة طبية OTC، وعلى الفور ردت آبجون على هذه الخطوة المهمة بأن خفضت سعر المينوكسيديل إلى نصف سعر المينوكسيديل الذي يتطلب وصفة طبية، فبلغت مبيعات المينوكسيديل عنان السماء، وحقق مكاسب مهولة.
في عام 1997، قامت آبجون بتدشين مينوكسيديل 5.0% لعلاج الصلع لدى الرجال، وفي عام 1998 سمحت FDA ببيع المينوكسيديل 5.0% بدون وصفة طبية. في عام 2014، أصبح المينوكسيديل العلاج الموضعي الوحيد الذي اعترفت به FDA لعلاج تساقط الشعر الوراثي، ومتاح للبيع بطريقة OTC في أغلب دول العالم.